أخذت الظاهرة الإرهابية من الباحثين والمتخصصين في العالمين العربي والإسلامي الكثير من الوقت والجهد في الادعاء بالسعي إلى سبــر أغوارها والتفتيش عن جذورها، ولكن قليل من الجهد بذل على صعيد تفكيك هذه الظاهرة وتفنيد أعراضها الراهنة من أجل التوصل إلى تشخيص علمي جاد يقود بالتبعية إلى معالجات وبدائل فاعلة في التعامل معها.
هناك أمثلة كثيرة على ذلك منها أنه لا توجد إحصاءات حقيقية حول حجم الظاهرة في دول ومناطق كثيــرة في عالمنا العربي، وتضيع الحقيقة غالبًا بين تهوين وتهويل، وفي الحالتين لا يكون الأمر ذا علاقة بالبحث عن حلول وبدائل بقدر ما يكون موجهًا نحو أهداف معينة تتجاوز فكرة المعالجة ولا علاقة مباشرة أو غير مباشرة بها.
تنشغل أيضًا غالبية مراكز البحوث والدراسات المتخصصة في عالمنا العربي بإجراء دراسات يغلب عليها الطابع التاريخي، أي التنقيب في كتب التاريخ سعيًا وراء إثبات ما هو مثبت، وتأكيد ما هو مؤكد، بحكم أن الإرهاب ليس بحاجة إلى أسانيد وأدلة وبراهين وقرائن للتأكد من وجوده بيينا وتهديده لمستقبل الجميع.
تضيع الحقائق بين كتب التاريخ وتغيب معالم الواقع بين دهاليـز الماضي، ولا يكلف أحد نفسه عناء إخضاع هذه الظاهرة لتشريح علمي حقيقي يسهم في فهم أبعادها ومعالجة الثغرات التي تنفذ منها.
الأمر يبدو مختلفًا بالنسبة إلى الغرب، الذي يمكن أن نقول فيه ما نشاء لجهة المواقف تجاه مكافحة الإرهاب وحتى الإسهام في انتشاره، ولكن المؤكد أن هناك من يسهر على بحث هذه الظاهرة وتفكيكها وفهم تفاصيلها، ومن ثم بحث أجرته مؤخرًا مؤسسة بحثية فرنسية كشفت فيه عن المشتركات بين نحو مائة من قادة تنظيمات الإرهاب في العالمين العربي والإسلامي، وهو بحث لافت في مضمونه ونتائجه، ويعكس رغبة في فهم ما وراء الظاهرة.
كشفت هذه الدراسة عما وصفته بظاهرة "سياحة التطرف"، حيث يجول الإرهابيون بين تنظيمات شتى ويتنقلون بين تنظيم وآخر بناءً على حسابات منفعية ذاتية مثل اعتبارات الصداقة والقرابة العائلية، وغير ذلك من عوامل تسهم في الاستقطاب والتجنيد بعيدًا عن الحسابات الفكرية والأيديولوجية التي يعتقد البعض أنها المحرك الأساسي لتنظيمات الإرهاب والتطرف.
كشفت هذه الدراسة أيضًا عن أمر غير جديد، ولكنه مهم، بالنسبة لمتابعي ملف تنظيمات الإرهاب والتطرف من الباحثين والمتخصصين، وهو أن أكثر من نصف قادة هذه التنظيمات لا علاقة لهم بدراسة العلوم الشرعية أو الدينية، فنحو 57% منهم خريجي تخصصات علمية مثل الهندسة والطب وغيرها، وهذا أمر لا غبار عليه، ولكن الإشكالية أن هؤلاء يخوضون في مجال الفتوى والعلم الشرعي ويسعون إلى تصدر المشهد السياسي انطلاقًا من زعم أو وهم زائف بأنهم أكثر قدرة والمامًا من غيرهم بالعلوم الدينية والشرعية، وأن لديهم "الحق" في تطبيق شرع الله وغير ذلك من مزاعم يروجها هؤلاء ويتاجرون بها ويخدعون البسطاء والمحبطين وشرائح كثيرة غيرهم.
كشفت هذه الدراسة أيضًا عن دور ما يوصف وهمًا بالتنظيمات"غير العنيفة" في توليد وتفريخ العناصر الإرهابية، وأكدت أن هذه التنظيمات تسهم في إيجاد البيئة الفكرية الحاضنة للفكر المتطرف، وتعمل مثل جسر عبور من الإطار التقليدي الديني السائد في المجتمعات العربية والإسلامية، أو ما يعرف ضمنًا بالتدين الفطري أو المجتمعي، وتنتقل بهؤلاء إلى مربع آخر عبر دس الأفكار الخاصة بالتشكيك في قيم المجتمعات وتوجهاتها وما يسود فيها من أفكار حول الدين والتدين، ناهيك عن التشكيك في الأطر المؤسسية الدينية القائمة، والسخرية من رموزها واتهامهم بالجهل والتسطيح وموالاة السلطة والحاكم، وغير ذلك من مزاعم تلقى هوى في نفوس النشء وصغار السن تحديدًا، بحكم السمات العمرية لهؤلاء، وهي سمات تجعلهم أقرب إلى التمرد على السلطة الأبوية سواء تمثلت في الأسرة أو الحاكم، والرغبة الجامحة في مخالفته وكسر القيود القيمية التي يحاول فرضها.
في هذه السن الخطرة تعمل وتركز وتنشط تنظيمات التطرف والإرهاب على التنشئة الاجتماعية الموجهة، وتسعى إلى تربية أجيال معادية لمجتمعاتها، وتغرس فيهم قيم التمرد والصراع مع السلطة، وتصور لهم تلك السلطة في صور نمطية سلبية دائمًا، لدرجة تضع تلك السلطة حائل بينهم وبين نيل مرادهم وطاعة ربهم!!
من ناحيتي، أعتقد شخصيًا أن تنظيمات الإرهاب ليست سوى تطور طبيعي للعبث في منطقة الدين والتدين من جانب تنظيمات يصفها البعض زورًا بالتنظيمات غير العنفية، فالأساس الفكري للإرهاب هو من إنتاج تلك التنظيمات، وبذور الحقد والعداء الاجتماعي نشأت بين أحضانها وعلى ألسنة قادتها، ومن ثم فليس الخطر فقط في ترجمة تلك الأفكار إلى إجراءات عملية، عبر حمل السلاح والاتجاه إلى التغيير بالقوة، ولكن الإشكالية الأساسية في الجينات والبذور الحاملة للوباء الإرهابي.
فكرة الفصل بين العنف واللاعنف في تنظيمات الإرهاب إذًا هي فكرة عبثية، تشبه تمامًا فكرة الإرهابي الجيد والإرهابي السيئ، أو تصنيف الجماعات المتطرفة إلى إرهابية ومعتدلة، فجمي