لا شك أن الاعتداء الإرهابي الآثم الذي وقع يوم الاثنين قبل الماضي بالقرب من المسجد النبوي في المدينة المنورة بالسعودية، يمثل نقطة مفصلية في تطور الظاهرة الإرهابية، ليس فقط لأنه استهدف أحد أقدس أماكن العبادة للمسلمين، ولكن أيضاً لأن الجريمة نفذت بتكتيك يعكس وجود حالة فصام تامة بين الإرهابيين وبين الدين الإسلامي، فلم يراع هؤلاء حرمة الصوم ولا مشاعر الصائمين وقام الانتحاري بتفجير نفسه وسط رجال الأمن مع حلول أذان المغرب، في توقيت لا يمكن لمسلم يمتلك حساً دينياً سليماً أو فطرة قويمة أن يختاره، أو يقبل باختياره لتنفيذ هذه الجريمة الشنيعة، التي تدق أجراس الإنذار بقوة كي نفيق جميعاً من غفوتنا ويدرك العالم أجمع، بقواه ودوله الكبرى، أن الإرهاب لا دين له ولا وطن، وأيضاً لا حدود ولا سقف لجرائمه الآثمة، فلا فرق بين مقدس و”مدنس” وفق معايير هذه التنظيمات، التي تتخذ من اجتهادات أئمة التطرف دستوراً لها.
أما ما أقصده بضرورة الاستفاقة بالنسبة لعالمنا الإسلامي فهو ضرورة التحرك الجاد لانتشال الكثير من شعوبنا ودولنا من أزمتها، والعمل الجاد على التصدي للفكر المتطرف عبر معالجات تربوية ومجتمعية شاملة ومتكاملة ومدروسة، وأن تخرج الدعوات بشأن تجديد الخطاب الديني من قوالب المناشدة ومخاطبة الذات، إلى فضاء العمل والاجتهاد البحثي والفقهي والعلمي، وكفى علينا ما قضي من سنوات وما ضاع من فرص.
تعرضت بنغلاديش يوم الثاني من يوليو الجاري لجريمة مروعة لم تلفت انتباه الكثيرين، ولكنها بالغة الخطورة في دلالاتها التحليلية، وما تشي به من أبعاد على صعيد تطور الظاهرة الإرهابية؛ حيث هاجم إرهابيون مقهى في قلب العاصمة دكا، وفي منطقة غولشان، التي تتميز بإجراءات أمنية مشددة إذ توجد فيها مقار لسفارات أجنبية ومؤسسات غير حكومية، إضافة إلى بنايات سكنية يقطنها أجانب وأغنياء بنغلاديش، وتشير التقارير إلى صعوبة المرور إلى داخلها دون الوقوف عند نقاط تفتيش أمنية محكمة.
وبغض النظر عن مسألة تحديد الجهة المسؤولة عن ارتكاب هذه الجريمة، التي تبناها تنظيم “داعش”، بينما تنفي الحكومة هناك ذلك وتقول إن المسؤولين عنها متطرفون محليون، فإن اللافت أن مرتكبيها ينتمون إلى طبقة النخبة السياسية والمجتمعية في بنغلاديش، إذ يشمل المتهمون ابن أحد السياسيين الحكوميين، بالإضافة إلى طلاب في إحدى مدارس أبناء النخبة، حيث قال وزير الإعلام البنغالي حسن الحق آنو “معظم الصبية الذين قاموا بالهجوم على المطعم كانوا طلابا في مؤسسات تعليمية جيدة للغاية… بعضهم كان في مدارس متطورة، وأسرهم ميسورة الحال”. بل إن أحد المهاجمين هو روحان امتياز، ابن امتياز خان زعيم حركة عوامي السياسية في دكا، ونائب الأمين العام للجنة الأولمبية البنغالية. وفي تصريحاته تعليقاً على الجريمة، قال امتياز كلاماً يستحق التوقف عنده ملياً، وهو أن نجله لم تكن لديه كتب أو أي شيء يظهر ميوله ولم تكن هناك أي مؤشرات على تطرفه.
هذا الكلام يعني أن التطرف قد لا تكون له بالفعل علامات دالة أو مؤشرات منذرة، وهذا ليس التأكيد الوحيد على ذلك بل هناك حالات انخراط كثيرة في تنظيم “داعش” لم تكن لديها أي ميول استباقية للتطرف، ما يستوجب إجراء دراسات تشخيصية دقيقة لتحليل الشخصية الإرهابية وسماتها، ودراسة الأسباب الحقيقية التي تدفع بعض أبناء الشرائح المجتمعية كافة، الفقيرة والمتوسطة والميسورة، للانخراط في تنظيمات الإرهاب.
عطفاً على الجرائم الإرهابية في عالمنا الإسلامي في الآونة الأخيرة، هناك كلمة لا بد منها وهي أن الإرهاب قد استفحل خطره، وأن هذا الخطر لم يعد يقتصر على تنظيمات أو جماعات الإرهاب، بل صار يمتد إلى ما توفره هذه التنظيمات والجماعات من “غطاء” لكافة أنواع التطرف والمؤامرات والمكائد، التي تندرج ضمن حروب الجيل الرابع وما بعده من أجيال حروب تتخذ من منطقتنا مسرحاً لها في السنوات الأخيرة. فخطر الإرهاب لا يقتصر على ممارسات تنظيماته وعناصره، الظاهرة منها والخفية والحركية منها والنائمة، بل أصبح يوفر أيضاً مجالاً حيوياً للتدخل في شؤون الدول وزعزعة استقرارها وضرب أمنها. فنحن إذن إزاء نوع مدمر من خلط الأوراق، بين عمليات إجرامية وإرهابية قد ترتكبها أجهزة وأذرع تابعة لدول وقوى إقليمية، أي إرهاب الدولة، وبين جرائم إرهابية ترتكبها تنظيمات الإرهاب وجماعاته المختلفة.
لذا فإن استئصال شأفة هذه التنظيمات والجماعات بات ضرورة استراتيجية قصوى لدول المنطقة، كي تتضح الصورة وتتكشف أبعادها وتنتهي مرحلة خلط الأوراق، التي لازمتنا طيلة السنوات الماضية، حيث اختلط الحابل بالنابل، ولم يعد الكثيرون يفرقون بين إرهاب وآخر، إلى درجة أن البعض لجأ إلى تقسيم الإرهاب إلى إرهاب حميد وإرهاب سيء بحسب خطورته وتأثيراته المحيطة.