تناولت في مقالي الأخير مسألة الدراسات النفسية كنقطة ارتكاز محورية في التعامل مع الظاهرة الارهابية، باعتبارها أحد جوانب المعالجة الشاملة والمتكاملة لهذه الظاهرة، جنباً إلى جنب مع المعالجات الأمنية والثقافية والاقتصادية والتنموية والتعليمية والتربوية والاعلامية والاجتماعية؛ فالثابت أنه لم تتبلور بعد في عالمنا العربي والاسلامي استراتيجيات شاملة ومتكاملة ومتعددة الأمدية الزمنية للتصدي للفكر الارهابي، ومعظم مايطبق فعليا من حولنا هو ردود أفعال وخطط قصيرة المدى وتكتيكات محدودة الأمد والفاعلية في التعامل مع هذه الظاهرة الخطرة. وأحد أبرز جوانب التأثير السلبي لذلك هو اتاحة الفرصة والمجال لتوالد وتكاثر التنظيمات والجماعات الارهابية، بل إتاحة المجال وتوفير البيئة اللازمة للتكاثر الفيسفسائي العشوائي، الذي يضمن لهذه الجماعات سعة الانتشار جغرافياً والاستفادة من خبرات الارهاب المتراكمة وتجنب أخطاء من سبقوها، الأمر الذي يفسر تماماً أسباب تطور "داعش" مقارنة بـ "القاعدة" وتطور الأخيرة مقارنة بتنظيمات الجيل الأول التقليدية مثل "جماعة الجهاد" و"التكفير والهجرة" وغيرها من الجماعات الارهابية، التي ظهرت في الساحة المصرية تحديداً خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين.
علينا أن ندرس بعناية ودقة أسباب انتقال الارهاب من فكر وممارسات فردية إلى تنظيمات اخطبوطية بدأت بشبكات ارهابية تقليدية، وسرعان ما تطورت إلى تبني فكر بناء دولة مزعومة هي "دولة الخلافة"، التي تسيطر حالياً في العراق وسوريا على مساحات جغرافية وتسيطر على موارد طبيعية وأعداد سكان تفوق مساحات دول كبرى تمتلك حق "الفيتو" في مجلس الأمن الدولي!!.
هناك أيضاً مسألة تتعلق بضرورة دراسة الظاهرة الارهابية في ضوء ما شهدته المنطقة العربية من تحولات وتغيرات استراتيجية في العقود الأخيرة، والتدقيق في جذور الظاهرة ليس فقط من الناحية الدينية الأصولية، التي يستغرق فيها الكثيرون متجاهلون أثر عوامل اخرى لا تقل تأثيراً.
كما لا يجب أن نغفل كباحثين ومراقبين ومتخصصين أثر عوامل استراتيجية طارئة مثل نتائج التحقيق البريطاني بشأن غزو العراق على سبيل المثال في تزويد تنظيمات الارهاب بطاقة تعبوية تساعدها في الحشد والاقناع ربما لسنوات قادمة. كما أن من الضروري الانتباه إلى خطر تفكك دول عريقة مثل العراق وسوريا واستمرار الفوضى في ليبيا وتفشي الارهاب وغياب الدولة في اليمن وتأثير ذلك في نشر الارهاب. ويكفي الاشارة إلى أن اليمن على سبيل المثال كانت ولا تزال أحد نقاط تمركز تنظيمات الارهاب.
ما أريد التأكيد عليه هو ضرورة الاعتماد على المدخل العلمي والتخطيطي في التعامل مع ظواهر خطرة بل ووجودية ومصيرية التأثير في مستقبل دول العالم العربي والاسلامي مثل ظاهرة الارهاب، فمن المؤسف ان نترك الاعلام على سبيل المثال للهواة والممارسات العشوائية التي تبني جدار فصل عازل يفوق جدار برلين المهدوم بين الشعوب ودولها، فتآكل مصداقية الاعلام ووصمه بالكذب والانحراف عن أولويات المجتمعات يمثل كارثة بكل المقاييس، حتى وإن جاءت ممارساته العشوائية بنتائج وردود أفعال سريعة تتماهى مع الأهداف والأولويات الراهنة. كما أن استمرار تجاهل عنصر الجدية والتخطيط العلمي في تطوير التعليم في كثير من الدول العربية، التي يقع معظمها في ذيل القوائم والتصنيفات الدولية الخاصة بتقدم التعليم وتطوره، يمثل كارثة بكل المقاييس، لأن هذا يعني دماراْ شاملاً للمستقبل، وبناء دول من دون ركائز حقيقية يمكن أن تعتمد عليها في المستقبل لمواصلة عملية البناء والتنمية الحقيقية.
هناك أيضاً إشكالية تتعلق بضعف أو غياب خطط وبرامج الصهر الاجتماعي وبناء الولاء والانتماء والهويات الوطنية لدى أجيال تتعرض لاختراقات كونية على مدار الساعة عبر شبكة الانترنت وما تضخه من أفكار ومعتقدات عابرة للجغرافيا والهويات الوطنية، والإشكالية أن الخطوات في التعامل مع الأفكار العابرة لا تزال تدور في فلك وصمها بالمؤامرة واتهامها بمعاداة الدول والأوطان من دون تحرك ايجابي حقيقي لبناء معادل موضوعي يحول دون حدوث اختراقات لعقول وقلوب الأجيال القائمة والقادمة!
في السابق كانت هناك وزارات وهيئات مختصة بالشباب والثقافة والاعلام، وهي هيئات قائمة في معظمها الآن، ولكن أدوارها غير واضحة وتكاد تكون غائبة في كثير من الدول العربية والاسلامية، فالكيانات الحكومية المعنية بالشباب لا تعرف من الشباب سوى الأندية الرياضية ولاعبي كرة القدم وربما بعض الرياضات الأخرى الأقل شهرة، في حين يغيب تماماً الاهتمام بالشباب الذين هم الهدف الحقيقي لهذه الكيانات، ويتركون لمنظمات العمل الأهلي والمدني التي تتشارك معهم في أعمال خيرية بعضها لمصلحة المجتمعات بالفعل، ولكن بعضها الآخر يمثل خططاً بعيدة المدى لجهات وأطراف وتنظيمات مجهولة الأهداف أو معلومة!
كارثة بكل المقاييس أن نكتفي بالثرثرة الخطابية من دون جهد حقيقي يبذل في مواجهة اختراق وتغلغل ظاهرة الارهاب في كثير من دولنا ومجتمعاتنا العربية والاسلامية، والكارثة الأكبر أن هناك شبه إدراك لأسباب هذه الظاهرة ومغذياتها الحقيقية على الأرض!
ليس من المنطقي أو المقبول أن يكتفي البعض في عالمنا العربي والاسلامي بالقاء المسؤولية في تفاقم الارهاب على قوى عظمى ومؤامرات غربية كونية، وغير ذلك من تفسيرات تستهدف تبرئة الذمة وإحالة المسؤولية إلى مجهولين، كما أنه ليس من المنطقي أيضاً تغذية حالة مقابلة أو معادلة من التطرف المعاكس لايجاد نوع من الموازنة أو بناء معادل موضوعي وهمي للارهاب، فمثل هذه التجارب تجاوزها التاريخ ودفعت بعض الدول أثماناً باهظة مقابلاً لها، ومن الحصافة التصدي للأسباب الحقيقة للظاهرة الارهابية والاشتباك المجتمعي والعلمي والتنموي معها.