يلاحظ المراقبون والمتخصصون تغيرات نوعية فارقة في استراتيجية تنظيم “داعش” خلال الآونة الأخيرة، وآخر مظاهر هذه التغيرات إعلان التنظيم تبني هجوم بساطور قام به إرهابي تابع للتنظيم في مدينة شارلروا البلجيكية.
هذا الاعتداء الإرهابي بآلة تقليدية (ساطور) على شرطيتين بلجيكيتين هو مثال للتغيرات التي طرأت على استراتيجية تنظيم “داعش” الإرهابي، وقد سبقته عمليات إرهابية عدة استهدفت مدينة نيس الفرنسية ومقاطعة بافاريا الألمانية ومدينة أورلاندو الأميركية وإسطنبول وبروكسل وغيرها.
أهم ملامح التغير التي طرأت على استراتيجية “داعش” تتمثل في شن هجمات فردية بآلات تقليدية بسيطة في معظمها يقوم بها فرد أو فردان ضمن ما يعرف بـ”الذئاب المنفردة”، بهدف توسيع دائرة الترويع والخوف والرعب أكثر في مناطق بالدول المستهدفة.
أخطر الأبعاد في هذه التغيرات أن هجمات الذئاب المنفردة توجه غالبا إلى أهداف ناعمة أو سهلة تتسم بضعف الإجراءات الأمنية، أو وجودها في حدّها الأدنى، وهذه الأهداف غالبا ما تكون تجمعات بشرية لإيقاع عـدد أكبر من الضحايا الأبرياء، بحيث يكون وقع الحدث مدويا سواء على السكان أنفسهم، أو على السلطات الرسمية والحكومية في الدول المستهدفة.
يسعى تنظيم “داعش” إلى الإيهام بمقدرته على تنفيذ تهديداته، وأنه يمتلك اليد الطولى على الأجهزة الأمنية، ومن ثم يشكك السكان والمواطنين والسائحين في مقدرة هذه الأجهزة على حمايتهم ويصبح الخوف والقلق هو المناخ السائد في الدول المستهدفة.
هذه التغيرات في استراتيجية الإرهاب بالغة الخطورة لأسباب واعتبارات عدة أولها أنها تضع كل مسلم، سواء من الزائرين أو مواطني ورعايا الدول المستهدفة، في دائرة الشك والتوجس، وهذا أمر بالغ الخطورة نظرا لتداعياته المدمرة على العلاقة مع الآخر غير المسلم، أو على الصورة النمطية للدين الإسلامي في العالم.
ثمة أمر آخر بالغ الخطورة في استراتيجية الذئاب المنفردة يكمن في أنها تحتاج إلى فرد أو مجموعة صغيرة من الأفراد للقيام بعمليات إرهابية تخدم أهداف التنظيم من دون أن تكون لهم صلة مباشرة به أو توجيهات واتصالات مباشرة مع قادته، وغالبا ما يتصرف هؤلاء من تلقاء أنفسهم في انتقاء الأهداف وتحديد ملامح الجريمة الإرهابية وتوقيت تنفيذها لخدمة أهداف التنظيم.
يلاحظ أيضا أن تنظيم “داعش” بات يوجه “دعوات مفتوحة” إلى أنصاره والمتعاطفين معه في مناطق ودول معينة لشن هجمات إرهابية، ما يعني أن التنظيم بات يكتفي بدور مرشد العمليات، ومن يحدد وجهتها وبوصلتها الجغرافية من دون تخطيط لطبيعة العمليات أو نطاقاتها أو القائمين على تنفيذها، وهم غالبا ما يكونون من المتأثرين بالأفكار والدعاية التي يروّج لها تنظيم داعش، والتي تجعل له أنصارا محتملين في مناطق مختلفة من العالم، وهو ما حدث في الهجمات التي شهدتها ألمانيا وفرنسا، مثل الهجوم الذي شنه المهاجر الأفغاني على ركاب قطار في مقاطعة بافاريا جنوبي ألمانيا في 18 يوليو 2016، حيث أكد وزير الداخلية الألماني توماس دي مايتسيري أن دعاية تنظيم داعش هي من حرضت المراهق الأفغاني على ارتكاب ما فعله، حيث لم تتوصل السلطات الألمانية إلى دليل يؤكد صدور أوامر من التنظيم له بتنفيذ الهجوم، والأمر نفسه بالنسبة إلى منفذ عملية الدهس في مدينة نيس الفرنسية والتي أودت بحياة 84 شخصا.
يلاحظ أيضا أن تنظيم “داعش” قد طور استراتيجية “الذئاب المنفردة” لزعزعة الأمن والاستقرار والاستفادة من عناصر بشرية غاضبة تعيش داخل المجتمعات الغربية، ما يعني أن التنظيم قد استفاد من دراسة الأوضاع المجتمعية للمسلمين في الغرب والإشكاليات المرتبطة بها، لذا يحاول اللعب على وتر إشكاليات الدمج والصهر الاجتماعي في دول أوروبية عدة، ويدرك تماما أن هناك شريحة، ولو قليلة، قد تستجيب لنداءاته الإرهابية للانتقام من المجتمعات التي تشعر تجاهها بالغضب والحقد.
خطر هذه الاستراتيجية الإرهابية أيضا أنها تصب الزيت على النار، وتسعى إلى إشعال الصراعات الطائفية عبر التركيز على استهداف المكونات الطائفية في الدول المستهدفة، على نحو يخل بحالة الأمن والاستقرار الذي يوفر البيئة الملائمة إلى التنظيم للوجود والنمو. وهو ما حدث في العمليات الإرهابية التي نفذها تنظيم “داعش” في المملكة العربية السعودية، واستهدفت تجمعات شيعية، لإشعال الفتن الطائفية.
أحد مظاهر الخطر في التغيرات الاستراتيجية التي انتهجها “داعش” أيضا تكمن في اللجوء إلى أسلحة بدائية يمكن الحصول عليها بسهولة، حيث بات بالإمكان تنفيذ هجمات بأسلحة بدائية مثل الأسلحة البيضاء والدهس بالسيارات أو حتى الضـرب بالحجارة كمـا دعا إلى ذلك منظّـر تنظيم “داعش” أبو محمد العدناني، ما يجعل تنفيذ الاعتداءات الإرهابية مسألة مغرية للكثير من العناصر المتعاطفة مع الفكر الإرهابي، ويجعل التشديد الأمني مسألة محدودة الأثر في الكثير من الأحيان، كما تسهم هذه الاستراتيجية كذلك في “تحييد” شبكات المعلومات الأمنية والزج بعناصر بعيدة عن دائرة الشك والشبهات وغير معروفة لدى الأجهزة الأمنية، وبالتالي تصعب ملاحقتهم والتوصل إلى معلومات بشأنهم.
مظهر آخر من مظاهر خطر التغير في استراتيجية تنظيم “داعش” يكمن في استفادة الإرهاب من عناصر الإجرام التقليدية، فالكثير من مرتكبي الاعتداءات الإرهابية الأخيرة في أوروبا مسجلون لدى الأجهزة الأمنية ضمن ملفات الجريمة التقليدية، وبالتالي ليسوا مسجلين لدى الأجهزة الأمنية المتخصصة في أنشطة ذات صلة بالتطرف والإرهاب، وليسوا على قائمة مراقبتها.
التغيرات في استراتيجية “داعش” بحاجة حقيقية إلى تنشيط جهود مكافحة الفكر الإرهابي لأن الأمر قد تجاوز محاولات بناء خلافة مزعومة، ليطال تفخيخ العلاقة بين المسلمين والآخر في مختلف دول العالم، وهذا الأـمر قد انعكس في العـديد من الحالات الفردية، حتى الآن، التي ترتبط بالشك في مسافرين وسائحين بل في مواطنين مسلمين بدول غربية، وقد بلغت الشكوك والمخاوف مدى يصعب الصمت تجاهه، حيث بات حمل كتاب باللغة العربية أو التحدث في الهاتف باللغة ذاتها على متن طائرة، على سبيل المثال، كفيل بإثارة شكوك البعض من المسـافرين كما ذكر تقرير إعلامي نشر مؤخرا.
هذه السلوكيات التي لا تزال تندرج ضمن أطر “فردية” قد تتعمق وتنتشر مستقبلا في ظل تمدد التيارات اليمينية المتشددة وارتفاع شعبيتها في دول غربية عدة، مع ما يعنيه ذلك من ارتفاع مدّ “الإسلاموفوبيا”، وصيحات العداء للإسلام والمسلمين، وعلينا ألا نكتفي باستنكار هذه التوجهات والدعوات فقط، بل نعمل على مسار مواز لتكثيف الجهود الرامية لمحاربة الفكر الإرهابي على مستويات تعليمية ودينية وثقافية جنبا إلى جنب مع المسار الأمني، فليس من مصلحة العالم الإسلامي ولا الغربي السماح للإرهابيين والمتشددين من الطرفين بالوقيعة وإشعال صراع حضارات مدمر.