تحتفل المملكة العربية السعودية هذه الأيام باليوم الوطني السادس والثمانين، الذي يوافق ذكرى توحيد المملكة الشقيقة، حيث تعتبر هذه المناسبة الوطنية محطة زمنية مهمة للوقوف على التطورات والمتغيرات الاقليمية، والدور المؤثر الذي تضطلع به المملكة اقليمياً ودولياً. ويأتي اليوم الوطني للمملكة هذا العام وسط ظروف اقليمية معقدة ومتشابكة، لها علاقات وثيقة بالمصالح الاستراتيجية السعودية، لاسيما ما يتعلق بالتمدد الاستراتيجي الايراني، الذي يمثل خطراً داهماً على الأمن الوطني للدول العربية بصفة عامة، ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية بصفة خاصة.
ورغم أن العلاقات السعودية الايرانية لم تكن على ما يرام طيلة العقود والأعوام التي تلت قيام الثورة الايرانية عام 1979، وظلت تراوح بين شد وجذب وهدوء حذر في أغلب تلك الفترات جراء السياسات الايرانية التوسعية ذات الصبغة الاستعمارية، التي لم تنس يوماً شعارها الأثير "تصدير الثورة"، وظلت تتحين الفرصة كي تدفع بهذا الشعار إلى دائرة الفعل والتنفيذ رغم الادعاءات الزائفة والدراسات المخاتلة بشأن تحول إيران من الثورة إلى الدولة.
افتعلت إيران منذ العام الماضي أزمة مع المملكة العربية السعودية بشأن الحج، وتورطت في تدبير حادثة مفجعة أودت بحياة مئات الحجيج من أجل اتهام الرياض بعدم المقدرة على تنظيم الحجم والحفاظ على أمن الحجاج، ولأنها لم تفلح في تسويق هذا الادعاء ووجدت صداُ قوياً على الصعيد الاسلامي، فقد لجأت إلى حيل ومخططات أخرى ومنعت حجاجها من زيارة الأماكن المقدسة هذا العام بدعوى تعنت السلطات السعودية مع شروط إيران بشأن حجاجها، ولكن السعودية تعاملت بذكاء مع المؤامرة الايرانية، التي لم تكن تهدف سوى إلى الترويج لمطلب "فارسي" قديم يتعلق بنزع إشراف الدولة السعودية على موسم الحج وتدويل السلطة على الأماكن المقدسة!
انكشف الوجه القبيح للمؤامرة الايرانية عندما توالت دعوات الملالي وفتاواهم التي جيشت نحو مليون إيراني لزيارة الأماكن الشيعية المقدسة في العراق، بل والتبجح بالترويج لها باعتبارها بديلاً للحج الشرعي إلى الأماكن المقدسة في مكة المكرمة!
للموضوعية، فإن السعودية لم تزج يوما بالدين في صراعات السياسة، وظلت تحافظ على مسافة واضحة بين دورها في خدمة بيت الله الحرام والحجاج والمعتمرين المسلمين طيلة العام، وبين دورها السياسي والاستراتيجي، الذي يحتم عليها أن تلعب دوراً قيادياً على المستويين الخليجي والعربي. والمؤكد أن الظروف والتطورات الاستراتيجية المتسارعة في السنوات التي تلت ما يعرف بـ "الربيع العربي" قد فرضت على القيادة السعودية ضرورة تنشيط دورها الاقليمي والامساك بزمام المبادرة والتقدم خطوة إلى الامام في ظل انحسار دور قوى عربية محورية، وغياب أخرى تماماً من دائرة الفعل والتأثير السياسي والاستراتيجي الاقليمي.
لم يكن التحرك السعودي الاستراتيجي اقليمياً إذاً قائماً على أهداف توسعية، ولا طموحات جديدة، كما يزعم أعداء المملكة، رغم أن الطموح الاستراتيجي أمر مشروع ومتعارف عليه في العلاقات الدولية، ولكنه في الحالة السعودية تحديداً جاء بمنزلة واقع يملي استجابات استراتيجية محددة للحفاظ على ما تبقى من الأمن القومي العربي، ومصالح الشعوب العربية، التي يعاني بعضها موجات لجوء بالملايين في دول مختلفة شرقاً وغرباً.
وإذا كانت القيادة السعودية الحالية، وعلى رأسها الملك سلمان بن عبد العزيز، قد نجحت في صياغة استراتيجية جديدة للسياسة الخارجية السعودية وفقاً للمعطيات والظروف الاقليمية الراهنة، بحيث انتقلت دائرة الفعل والتأثير السعودي من مربع رد الفعل إلى دائرة الفعل وفق استراتيجية الامساك بزمام المبادرة لتفادي الخسائر الاستراتيجية المتوقعة، وبناء حوائط صد قوية ضد أطماع الاخرين، والأخذ باستراتيجية الدفاع الوقائي على الصعيد الأمني والعسكري كما حدث في القرار التاريخي بشن عملية "عاصفة الحزم"، التي نجحت في احباط مخطط إيراني توسعي استهدف ضمن عاصمة اليمن إلى عواصم عربية عريقة تباهت ولا تزال إيران باحتلالها مثل بغداد ودمشق وبيروت!!
شخصياً، ليس لدي شك في أن عمليتي "عاصفة الحزم" ثم "إعادة الأمل"، اللتان قادتهما المملكة العربية السعودية بمشاركة دول عربية مؤثرة في مقدمتها دولة الامارات العربية المتحدة، تمثلان منعطفاً تاريخياً فارقاً حافظ على عروبة اليمن الشقيق، واحتفظ لهذا البلد العربي الأصيل بهويته وعروبته ولا يقلل من حجم وأهمية هاتان العمليتان ما يثار من مزاعم واهية حول فعاليتهما من جانب أطراف وقوى لا تريد للمملكة ودول مجلس التعاون الخير والاستقرار.
والمؤكد أن أي حسابات استراتيجية بسيطة تؤكد أن السعودية والامارات يهمهما بشكل بالغ تحقيق الأمن والاستقرار في اليمن الشقيق، والحفاظ على مصالح هذا الشعب الأبي، فالحزم كان يهدف من الأساس لوقف مؤامرة السيطرة على مقدرات هذا الشعب واختطاف السلطة فيه لمصلحة فئة باغية، ومن ثم فليس من المنطقي أن يكون غياب الأمن والاستقرار مريحاً لدول التحالف العربي، وهي التي سعت من البداية إلى الدفاع عن ركائز ومقومات الدولة اليمنية!
وفي ضوء الظروف الاقليمية والصراعات الدولية الراهنة، لا يمكن لأي عاقل المجازفة بتجاهل أهمية الدور السعودي في الحفاظ على مقدرات الشعوب الخليجية والعربية، فالسعودية تمثل الركن الركين للأمن الوطني في دول مجلس التعاون، والأمن القومي العربي في ظل ضغوط داخلية وخارجية هائلة تتعرض لها دول عربية رئيسية مثل مصر الشقيقة،
نجحت القيادة السعودية في إعادة موضعة توازنات القوى الاقليمية والامساك جدياً بزمام المبادرة في لحظة تاريخية عاصفة كانت تنذر بضياع معظم العواصم العربية، أو وقوعها تحت دائرة التأثير الايراني الفارسي، أو الخضوع لحكم تنظيمات ارهابية متطرفة تمتلك أجندات ومصالح ذاتية تصب في خدمة قوى خارجية، لذا فإن صعود الدور السعودي استراتيجياً في السنوات الأخيرة لم يكن يستهدف البحث عن زعامة اقليمية أو ملء فراغات القوى الناجمة عن غياب قوى عربية تقليدية من دائرة الفعل والتأثير مرحلياً بفعل ظروفها الداخلية، ولكنه جاء ليعكس شهامة وعروبة القيادة السعودية، التي تحملت الكثير من الأعباء والضغوط والكلفة المادية والمعنوية والبشرية الكبيرة استجابة لنداءات الأشقاء العرب، وحفاظاً على مصالح شعوب عربية كانت ترنو إلى دور قيادي فاعل من جانب دول مجلس التعاون بقيادة المملكة العربية السعودية.
لم تعد السعودية كما كانت من قبل، هذا صحيح، فالمملكة باتت في عهدة قيادة تاريخية تدرك جيداً خطورة الظروف الراهنة، ويضفي عنصر الشباب ممثلاً في ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حيوية فائقة ومقدرة هائلة على الفعل والتأثير داخلياً وخارجياً، حيث جاءت بصماته من خلال رؤية المملكة 2030 لتؤكد أن هناك أفق مستقبلي واعد لملايين الشباب السعوديين، وأن العمل على مكافحة التطرف والارهاب لا يمضي على مسارات تقليدية أثبتت نجاعتها فقط، بل يشمل أيضاً دروب تنموية لم تعهدها المملكة من قبل وتفتح أبواب المستقبل وتكرس ثقافة الانفتاح على العالم اقتصادياً وتنموياً، وصولاً إلى مشهد يبعث على التفاؤل للمملكة في الألفية الثالثة.
احتفال المملكة العربية السعودية بيومها الوطني، هو بالنسبة لنا في دول مجلس التعاون، محطة تاريخية للاحتفاء بالدولة القائدة لمسيرة المجلس، التي حافظت على كيانه المؤسسي في أصعب المنعطفات، وتجاوزت أشد الظروف بمقدرتها القيادية الواعية على لم الشمل وتجاوز الصغائر واحتواء الهفوات.
ويخطىء من يظن أن ما تتعرض له الشقيقة الكبرى السعودية في المرحلة الراهنة من ضغوط إيرانية شأن يخصها، أو مسألة تنافسية بينها وبين ملالي إيران، فالحقيقة أن السعودية هي أحد أهم مداميك التوازن والاستقرار في دولنا الخليجية، وليس أمامنا من خيارات وبدائل استراتيجية سوى الوقوف بجانبها ومساندتها في مواجهة أي ضغوط خارجية، فهي حائط الصد ومركز الثقل، الذي يحفظ لدول مجلس التعاون أمنها واستقرارها.
الحقيقة التي ينبغي عليها كخليجيين وعرب تذكرها جيداً مناسبة احتفال المملكة العربية السعودية بيومها الوطني، أن دولنا تواجه تحديات استراتيجية غير مسبوقة، وأن ما بين السعودية وإيران ليس صراعاً مذهبياً، بل صراع هوية يستحضر فيها الملالي تاريخهم الفارسي، ولا يمكن، والحل كذلك، السماح بوجود مؤامرات في خاصرة دولنا العربية، وكما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، إن الأمن القومي العربي كل مترابط لا يتجزأ، وتلك هي قاعدة وجوهر التفكير الاستراتيجي الصائب.
- See more at: http://elaph.com/Web/opinion/2016/9/1110870.html#sthash.uNrjDumd.dpuf