قبل ان اكتب حرفاً في موضوع المقال، ارتأيت أن أغلق بقوة باب المزايدة الاعلامية من خلال تأكيدي الواضح والصريح على رفض أي مساس أو انتهاك او تجاوزات بحق المقدسات والرموز الدينية إيماناً مني بأن الحرية لا تعني مطلقاً الفوضى، وأن حرية الرأي والتعبير ليست مطلقة بل مقيدة تماماُ بأسس ومبادىء وثوابت الاستقرار الاجتماعي، وهذه قناعتي الذاتية، التي قد يتفق معي فيها البعض ويختلف آخرون، وليس بين وبين غيري سوى مساحات الحوار ومداد الاقلام كي نتبارى من خلاله في ساحات الرأي والفكر.
بعد هذه المقدمة التي اعتبرها ضرورية للولوج إلى موضوع شائك ومعقد مثل حادثة اغتيال الكاتب والصحفي الأردني ناهض حتر، أرى أن هذه الجريمة تنبه إلى الكثير من النقاط أولها أن الفكر المتطرف لم يعد بالضرورة ينخرط في جماعات أو تنظيمات بل بات يتمثل في أفراد، يطلق عليهم أحياناُ "ذئاب منفردة" وفق الاصطلاح الغربي للارهابيين الذين يمثلون خلايا نائمة تابعة بشكل غير مباشر لتنظيمات بعينها أو متعاطفة مع فكر هذه الجماعات وتعمل وفق أجندتها من دون تخطيط وتنسيق مسبق.
والنقطة الثانية أن الجهود المبذولة حتى الآن لفضح الفكر المتطرف والتصدي له ليست بالفاعلية المطلوبة للتصدي لأصحاب هذا الفكر، على المستويات القانونية والأمنية والثقافية والدينية. والنقطة الثالثة تتمثل في غياب الاحساس التشاركي بالمسؤولية من جانب بعض أصحاب الرأي، الذين يتجاهلون معطيات البيئة المجتمعية ويعملون في اتجاه مضاد لها بدعوى كسر الحواجز وتحظيم المحظورات وفتح فضاءات جديدة للحريات!
لا يمكن أن نلقي باللوم في هذه النوعية من الجرائم على الدول والحكومات او الأجهزة الأمنية بمفردها، فتحدي الثوابت المجتمعية يمثل عبئاً ثقيلاً على المعنيين بالأمن والاستقرار المجتمعي، الذين يعملون وفق معادلات حساسة قائمة على إحداث التوازن بين الحريات من جهة ومنظومة الثوابت الخاصة بقيم المجتمع الاخلاقية والدينية من جهة ثانية، وحيث يصبح أي اختراق لهذه المنظومة من قبل بعض أفراد المجتمع بدعوى حرية الرأي والتعبير إخلالاُ وإرباكاً لعمل الأجهزة والسلطات المختصة.
لا يمكن في المقابل، وبأي ذريعة من الذرائع، قبول فكرة الفوضى التي تعمل على نشرها العناصر الارهابية المتشددة، التي تريد أن تستبيح المجتمعات والدول، وتنصب من نفسها قضاة وجلادين لأصحاب أي فكر ورأي مخالف، وعلينا أن نعلن صراحة أن همجية هذه العناصر والتنظيمات والجماعات التي تنتمي إليها أو تعبر عن فكرها الجاهلي تنخر في أسس الدول والمجتمعات، وتمثل خطراً داهماً على الجميع لأنها تنكر فكرة الدولة وتنسفها نسفاً.
في النصف الثاني من القرن العشرين، ظهرت جماعة ارهابية متطرفة تسمى "التكفير والهجرة"، انطلقت من فكرة تكفير المجتمع الذي تعيش فيه، والانعزال عنه وبناء مجتمعات خاصة معزولة عنه تعمل وفقاً لمفاهيم شديدة التطرف والجهل والغباء، وظهرت أيضاً جماعات اخرى مثل الجماعة الاسلامية وغيرها، وكانت هذه الجماعات في مجملها ترجمة أو في أفضل الأحوال إعادة إنتاج لأفكار وردت في كتب منظرين معروفين لجماعة الاخوان المسلمين، في مقدمتهم سيد قطب. وقد واكب ظهور هذه الجماعات من الناحية الزمنية وكان من نتائج انتشار فكرها المتطرف جرائم لا تنسى مثل محاولة اغتيال الاديب العالمي نجيب محفوظ على يد جاهل لم يكن قد قرأ سطراً من سطور رواياته ولا مرت عيناه على حرف من حروف أعماله الأدبية، ولكنه نفذ ما طلب منه بجهل شديد، كما كان من جرائمها أيضاً اغتيال علماء دين مستنيرين وباحثين حاولوا التحليق في فضاءات الاجتهاد الفقهي.
لاشك أن الخروج من دوامة هذه الجرائم النكراء والممارسات الخرقاء تبدأ من تكريس ثقافة احترام المقدسات والأديان، والتأكيد على ضرورة التفرقة بين حرية الرأي والتعبير من جهة واحترام المقدسات والرموز الدينية من جهة ثانية. كما تبدأ في الوقت ذاته من التعامل بكل حزم قانوني وأمني مع جرائم التحريض على العنف والقتل والارهاب الفكري والمادي والمعنوي من خلال قوانين صارمة تنطوي على عقوبات واضحة تكفل تحقيق أمن واستقرار المجتمعات.
إن مواجهة تيارات العنف والارهاب هي مسؤولية مشتركة للمؤسسات والدول والنخب الثقافية، ولا يمكن بأي حال الاستسلام لممارسات التيارات الظلامية ولاسيما ما يتعلق منها بإشاعة الخوف لدى شرائح المجتمع من المثقفين وغيرهم، وهذه المسؤولية تستلزم بالضرورة تعزيز أسس الاستقرار الاجتماعي عبر نبذ الحوار بلغة الرصاص، وبالقدر ذاته تعزيز ثقافة احترام الأديان والمقدسات للحيلولة دون بناء جدران الكراهية والأحقاد داخل المجتمعات، او اتاحة الفرص للارهاب والارهابيين كي يستغلوا بعض الأفكار في تحقيق أهداف دنيئة تؤدي إلى الفتن والفوضى في الدول والمجتمعات.