تابعت خلال الفترة الأخيرة العديد من الفعاليات والمقالات والمؤتمرات الاستراتيجية المتخصصة، وآخرها مؤتمر "القادة لحروب المستقبل"، الذي عقدته وزارة الدفاع الاماراتية في أبوظبي، ولفت انتباهي أن بؤرة الاهتمام والتركيز من جانب الاستراتيجيين والقادة العسكريين على حد سواء باتت تتمحور حول التأثيرات السلبية الناجمة عن وسائل التواصل الاجتماعي، وكيفية توظيف هذه الوسائل من جانب من يسمون بالفاعلين الجدد في النظام العالمي، وفي مقدمتهم تنظيمات الارهاب في تقويض الأمن والاستقرار في دول ومناطق عدة من العالم.
لم تعد النقاشات في مثل هذه المؤتمرات تدور بالأساس حول التطورات في النظريات العسكرية وعلى مستوى التسلح وتطوره، بل باتت تضع الاعلام الجديد في صدارة أولوياتها، حيث يجمع الخبراء والمتخصصين على أن تكنولوجيا الاتصالات وتطبيقاتها في مجال الاعلام، ولاسيما على صعيد وسائل التواصل الاجتماعي، باتت عنصر التأثير الأساسي في تحريك الأحداث وخلق الأزمات في كثير من الدول، ومنحت الفاعلين من غير الدول، مثل التنظيمات والجماعات الارهابية، مقدرة هائلة على المناورة والتأثير الواسع، بل وسحب زمام المبادرة والمبادأة من الدول والحكومات، ومنافستها بقوة في ما يتعلق بالمقدرة على الفعل والتأثير الجماهيري.
إحدى الاشكاليات التي تسهم في تفاقم خطر وسائل التواصل الاجتماعي من وجهة نظري هو التفكير التقليدي من جانب كثير من الدول والمسؤولين، فرغم الكم الهائل من الأدبيات المنشورة والنقاشات المثارة حول تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، فإن هناك شريحة من المسؤولين تتعامل مع هذا الخطر باعتباره تهديداً زائفاُ أو مبالغ به، رغم أن أحاديثهم وتصريحاتهم تشي بعكس ذلك وتعبر عن خطر قائم بالفعل، ولكن يبدو أن "حدود" هذه الفكرة أو القناعة لم تتجذر بشكل كامل في الوعي الكامن أو الباطن لدى هؤلاء المسؤولين، فنجدهم يتصرفون على خلاف ما يتحدثون، بمعنى أن ردات فعلهم حيال أي "محتوى" قد ينطوي على تأثير سلبي على المجتمعات والدول والشعوب ما في وسائل التواصل الاجتماعي، تأتي ردات الفعل أو الاستجابات هذه بطيئة او ضعيفة وربما مستهترة وأحياناً متأخرة جداً، بما يعكس تجاهلاً للتأثيرات السلبية لهذا المحتوى، أو عدم اقتناع كامل بحقيقتها، ما يتسبب في تفاقم الأزمات وانتشار الشائعات والأجواء المشحونة عبر وسائل التواصل الاجتماعي من دون تدخل إطفائي وعلاجي من جانب المعنيين سواء بالتوضيح أو بإظهار حقائق أو بفضح مؤامرات أو كشف مخططات مدبرة!!
تتحدث كثير من الدول والحكومات عن خطر وسائل التواصل الاجتماعي، ولكنها في حقيقة الأمر تتعامل مع هذا الخطر بأدوات بدائية للغاية ، سواء من خلال مايعرف بالحلول الاستئصالية، أو الأمنية، وهي حلول مطلوبة ولكنها ليست العلاج الأوحد، فهي تستئصل "الورم" ربما، ولكنها لا تفيد في محاصرة الآثار المرضية الناجمة عن ظهوره أو انتشاره. فعلى سبيل المثال، لو أن تنظيم ما يعمل على بث الشائعات ويتخذ من الحرب النفسية وسيلة للتحريض وتأليب الرأي العام في دولة ما ضد النظام، فمن الممكن تتبع مروجي الشائعات عبر شبكة الانترنت والقبض عليهم بموجب القانون، ولكن تبقى آثار هذه الشائعات بانتظار من يكمل مهمة من تم القبض عليهم، وهم جاهزون بالفعل لمواصلة مثل هذه المهام في ضوء ما تتمتع به تنظيمات الارهاب من تمويل وقدرة كبيرة على الحشد والتخطيط التآمري.
يتحدث الجميع عن حروب الجيل الرابع والخامس وغير ذلك، ولكن يبقي هؤلاء أيضاً عند حدود التعامل إعلامياً عبر نظريات وآليات وأنماط قديمة، تثير الشفقة والرثاء في أحيان كثيرة، فيواجهون حروب الجيل الرابع التي يتحدثون عنها بأدوات حروب "السهام والسيوف والمقاليع"!! هنا تحديداً تكمن نقطة تفوق تنظيمات الارهاب في المجال الاعلامي، فهي توظف وسائل الاعلام الجديدة بشكل هائل وتستخدم امكانيات هذه الوسائل المتطورة في الدعاية والتجنيد والاستقطاب ونقل الرسائل وتبادل الخبرات بل وبناء معسكرات تدريب افتراضية بدلاً من المعسكرات التقليدية، التي يمكن رصدها وقصفها بسهولة عبر الطائرات من دون طيار. على الجانب الآخر، نجد أن ممارسات بعض الدول والحكومات لا تزال تعتمد على برامج وقوالب إعلامية تعود إلى حقبة منتصف القرن العشرين، حيث يقبض أحدهم على الميكروفون ويظل يتحدث إلى الجمهور بالساعات والساعات مقتنعاً بأن قدرته على التأثير الجماهيري لا شك فيها!
أدرك أن علم الاعلام يقوم على تحديد خصائص الجمهور المستهدف ومن ثم اختيار الوسائل المناسبة، ولكن من قال لهؤلاء أن الجمهور المستهدف لا يزال يفضل الاستماع إلى البرامج الاعلامية الحماسية في عصر اليوتيوب والفيسبوك وتويتر؟!
الإشكالية أيضاً أن معظم الدول والحكومات تتحدث كثيراً ولا تفعل سوى القليل سواء في ما يتعلق بنشر ثقافة الاعتدال ومكافحة الفكر الظلامي المتطرف، أو أنها تقوم بجهد فعلي ولكن عبر أدوات تقليدية قديمة أو قنوات غير فاعلة أو سوء اختيار للقائمين بالاتصال ونقل الرسالة.
عندما نتحدث عن المستقبل سواء في مجال الحروب أو في التهديدات الاستراتيجية بشكل عام، فإن الاستحقاق الأهم يتمثل في ضرورة التحرك والفعل بوتيرة تفوق سرعة وفاعلية مصدر التهديدات، وهو تنظيمات الارهاب والتطرف، ومن دون ذلك ستبقى المجتمعات والدول تعاني جراء تفاقم التهديدات المستقبلية.