ليس لدى شك في أن سياسات الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب وتوجهاته ستتغير بدرجات ما، وفقاً لكل ملف سياسي وظروفه ومتغيراته، فالشعارات الانتخابية لن تترجم حتماً إلى سياسات وخطط للبيت الأبيض في عهد ترامب، والتاريخ يخبرنا بذلك جيداً.
ومن ثم فما يقلقني ليست سياسات القادم الجديد إلى البيت الأبيض، ولكن ما فعلته هذه الشعارات في ثقافة التعايش العالمية، والتوابع المترتبة على ما تحقق انتخابياً في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تتحدث تقارير إعلامية كثيرة عن توقعات بقوة دفع جديدة لصعود اليمين المتطرف في أوروبا، والذي وجد في فوز الرئيس ترامب دعماً قوياً لمساعيه للوصول إلى السلطة في دول أوروبية عدة.
في فرنسا، سارع جاي ماري لوبان مؤسس حزب الجبهة الوطنية الفرنسية ووالد زعيمة الحزب الحالية مارين لوبان، إلى القول في تغريدة له "اليوم الولايات المتحدة وغداً فرنسا"، أما ابنته زعيمة هذا الحزب اليميني المحسوب على التيار السياسي المتطرف في البلاد، فبادرت إلى القول أن اختيار دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة الامريكية يعزز من فرص انتخابها رئيسة لفرنسا في الانتخابات الرئاسية المقرر العام المقبل، وقالت في تصريحات لشبكة "بي بي سي" لقد جعل السيد ترامب ما كان يظنه البعض غير ممكن أمراً ممكناً". وفي تقرير لها ذكرت شبكة "بي بي سي" أن استطلاعات الرأي في فرنسا تشير إلى أن لو بان صاحبة الآراء المتطرفة والمعادية للعرب والمسلمين والمهاجرين بشكل عام قد تصل إلى المرحلة الثانية من الانتخابات الرئاسية المقررة في مايو المقبل إذا ترشحت في الانتخابات كما تعلن دوما، كما حصل حزبها المناهض للاتحاد الأوروبي على 27 في المئة من أصوات الناخبين في الانتخابات المحلية الأخيرة في ديسمبر الماضي.
التوجه نحو اليمين المتطرف واتباع السياسات الانعزالية بدأ مع تصويت الناخبين البريطانيين لمصلحة الخروج من عباءة الاتحاد الأوروبي في في يونيو الماضي، وتمثلت الموجة الثانية لهذه التوجهات في انقلاب التوقعات واستطلاعات الرأي ومخالفة آراء جميع الخبراء والمتخصصين وفوز الرئيس ترامب بأغلبية أصوات المجمع الانتخابي الأمريكي في انتخابات نوفمبر الجاري.
في مواجهة هذا التيار اليمني المتطرف الكاسح يبدو العالم في مواجهة إشكاليتين رئيسيتين أولهما وجود احتمالية عالية لنشوب موجة اضطرابات عالمية مع مايعنيه ذلك من تفكك أسس وقواعد النظام العالمي القائمن ودخول مرحلة اللانظام وتوابعها التي يصعب توقع نتائجها في الوقت الراهن، لاسيما في ظل حالة التقوقع والتشرذم الدولية وانحسار أجواء التعاون الدولي في مجالات حيوية مثل التجارة والاقتصاد والعلاقات الدولية. الإشكالية الثانية لا تنفك كثيراً عن الأولى وتتعلق بدخول مرحلة صراع الحضارات والثقافات التي بشر بها صموئيل هنتجتون منذ تسعينيات القرن العشرين، وركز فيها على صراع الغرب مع الإسلام، وهي الملامح التي تتبلور الآن في دول غربية عدة ما لم يتم تدرك اخطارها الكارثية.
الخطر في ما يدور من حولنا عالمياً أن التعددية والتعايش كانا نتاج تجارب مريرة وصراع استمر لقرون بين الحضارات والثقافات، وانتهى إلى صيغة التعايش وبناء مجتمعات متعددة الثقافات، ولكن يبدو أن أصوات التشدد والتطرف في كل طرف قد نجحت في زلزلة هذه الأجواء واختراقها والتشكيك في استمراريتها وفاعليتها للمجتمعات، ومن هنا بات التوجه نحو رفض الآخر، شكلاً ومضموناً، يحظى بدعم متزايد بدعم نسبي من بعض قطاعات ووسائل الاعلام التقليدي، وكثير من الاعلام الجديد، الذي ينتمي في معظمه إلى أجيال تتمرد على الواقع وتميل إلى تحطيم القواعد ولا تدرك أهمية القيم الانسانية الأصيلة مثل التعايش والتعددية وغير ذلك.
تقول السياسية الفرنسية اليمينية لو بان أن الاختيار للمجتمعات هو بين مجتمع متعدد الثقافات ومجتمع يضم مواطنين راغبين في السيطرة على مقدراتهم بالكامل، ولا أدرى شخصياً ما وجه المفارقة أو الصدام أو التضاد بين الخيارين، وما علاقة التعددية بامتلاك المجتمعات لمقدراتها، وقناعتي أن هناك ماورائيات لهذا الفكر، الذي يؤمن بأن "الأمم الحرة" كما تقول لو بان نفسها هي الأمم التي لا تلتزم بمشتركات للحياة والتعايش المشترك، لذا فهي ترى في قواعد الاتحاد الأوروبي ذاته نوع من "القمع" وتعتبره "نموذجاً قمعياً"، وتطرح استبداله باتحاد أوروبي بين "أمم حرة" ترى أن الأوروبيين يصبون إليه، ونظر واحدة على الاتحاد الأوروبي بصيغته الحالية لا نجد فيه دولة مسلمة، فالمسألة إذا لا تقتصر على الاسلام بل تطال دول أخرى، الأمر الذي يعني عودة أوروبا ذاتها إلى حروب القرون الوسطى وصراعات طاحنة على خلفيات دينية وعرقية وسياسية وغير ذلك!.
وقبل أن يتهمني البعض بتضخيم هذه المخاوف، أشير إلى أن الحديث ذاته يتردد في ألمانيا على لسان السياسي الألماني ماركوس برتسل عضو حزب البديل من أجل ألمانيا، وفي بلجيكا على لسان قادة حزب المصلحة الفلمنكي الداعي للانفصال عن أوروبا ومناهضة الاسلام والمسلمين، وفي هولندا بطبيعة الحال على لسان اليميني المتطرف خيرت فيلدرز، الذي قال عقب فوز ترامب "لقد استعاد الأمريكيون أرضهم"!.
هذه التوجهات قائمة في أوربا منذ سنوات مضت ولكن فوز الرئيس ترامب منحها قوة دفع هائلة، ووفر لها الآمال الكافية لاستنساخ التجربة الأمريكية رغم أن الرئيس ترامب لن يتبنى هذه السياسات المتشددة لاعتبارات وأسباب كثيرة، والأهم لأنها ليست في مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية.
ما يهمني في هذا الإطار أن هناك سنوات عجاف تنتظرنا كعرب ومسلمين، وأن علينا أن نتعاطى مع الظرف العالمي الراهن بدقة بالغة، وأن نتحرك بأقصى سرعة لتفويت الفرصة على تنظيمات التطرف والارهاب كي لا تستغل هذه النزعات الغربية في إشعال النار من ناحيتنا وشحن المزيد من شبابنا بأفكار ارهابية معادية للعالم، والمعركة لا تزال في بداياتها والصمت أو الحياد جريمة في مثل هذه المواقف، فالصراعات لا تجلب سوى الدمار، وما يحدث ليس وسى اختبار لإيمان العالم وجديته في غرس ثقافة التعايش وقبول الآخر.