وسط موجة غير مسبوقة من التحديات الاستراتيجية، تمثلت في تنظيمات الإرهاب أو الجماعات المارقة التي تعمل لمصلحة أطراف إقليمية توسعية، تسعى إلى التمدد والتوسع في دول عربية مفصلية بالنسبة إلى الأمن القومي العربي والخليجي كما هو الحال بالنسبة إلى اليمن الشقيق، وسط هذه التعقيدات تمضي قافلة التنمية والأمن والأمان والاستقرار في دولة الإمارات العربية المتحدة بحكمة قيادة رشيدة ووعي شعب وفيّ يلتف حول قيادته ويلتئم على قلب رجل واحد، ويدرك قيمة العيش في بيت متوحد.
في الذكرى الخامسة والأربعين لتأسيس اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة، نستحضر أولا روح الآباء المؤسسين، وعلى رأسهم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وهي الروح التي تميّز التجربة التنموية الإماراتية عن غيرها من التجارب الإقليمية والدولية، كما نستحضر أيضا بكل إعجاب وتقدير رحلة الكفاح التي حوّلت رمال الصحراء إلى دولة فتيّة تضاهي في بناها التحتية وتخطيطها الاستراتيجي وأدائها الحكومي والتنموي أرقى الدول المتقدمة.
إن أحد أسرار قوة النموذج الإماراتي يكمن في روح التحدي التي واكبت هذا النموذج منذ انطلاقه، حيث رافقت التحديات رحلة التأسيس منذ بدايتها. فتحديات التخطيط والبناء والتنمية كانت تمثل أصعب الملفات بالنسبة إلى سنوات الاتحاد الأولى، وهي في مجملها تندرج ضمن مفهوم “تحديات البقاء”، سواء على صعيد بناء مؤسسات الدولة الوليدة أو بناء الإنسان، فضلا عن تحديات بلورة الهوية الوطنية للدولة الاتحادية التي تكوّنت من إمارات عدة متقاربة جغرافيا وثقافيا وإنسانيا ولغويا.
لكن هذه الإمارات كانت تخوض للمرة الأولى في تاريخها تجربة العيش تحت راية دولة اتحادية، وما يتطلبه ذلك من ترتيب للبيت وتدعيم للمؤسسات الاتحادية وإبراز دورها وتوحيد القوات المسلحة، وغير ذلك من الخطوات التي عمّقت روح الاتحاد وعجّلت بصهر الهوية الوطنية وأنتجت بعد هذه السنوات من الجهد والعمل الجاد مفهوم “البيت متوحد”. وهي العبارة التي اختزل من خلالها، بمفردتين ذكيتين، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حالة الاصطفاف الوطني والتماسك والالتفاف الشعبي وراء القيادة الرشيدة.
ويشير استقراء تاريخ منطقة الخليج العربي، ودولة الإمارات العربية المتحدة منذ تأسيسها في الثاني من ديسمبر عام 1971، إلى أن التحديات تمثل جزءا رئيسيا من البيئة الاستراتيجية التي انطلقت منها دولة الاتحاد ونمت وتطورت ونجحت في مجابهة هذه الظروف الإقليمية والتحديات الصعبة، ابتداء من حرب السادس من أكتوبر عام 1973، التي اندلعت ولم تكن دولة الاتحاد قد بلغت العامين بعد، ومع ذلك فقد شهدت هذه المحطة التاريخية العربية الأساس المتين للمبادئ القومية التي لا تزال تشكل محور العمل الدبلوماسي والسياسة الخارجية الإماراتية حتى الآن.
فقد وقف الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان موقفا عربيا بطوليا ولم يخش التأثيرات الاستراتيجية المحتملة لموقفه حين أمر بوقف تصدير النفط إلى الدول الداعمة لإسرائيل، قائلا “النفط العربي ليس أغلى من الدم العربي”. هكذا أسس الشيخ زايد الخير للمواقف العربية المشتركة ووضع الإطار الجامع للأمن القومي العربي الذي هو جزء لا يتجزأ كما أكد مرارا الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، معبّرا عن قيم الوالد المؤسس وثبات الإمارات على مبادئها وقيمها وثوابتها الراسخة.
لم يتوقف تاريخ التحديات التي جابهت مسيرة دولة الاتحاد إقليميا، حيث قامت الثورة الإيرانية عام 1979، ببروز نظام ثيوقراطي يرفع شعار “تصدير الثورة” إلى محيطه الإقليمي والغزو السوفييتي لأفغانستان في العام ذاته، ثم الخلخلة التي تعرضت لها العلاقات العربية ـ العربية على خلفية توقيع معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية، ثم الحرب العراقية ـ الإيرانية، ثم الغزو العراقي للكويت في أغسطس 1990 وهو الحدث الأخطر استراتيجيا في تاريخ منطقة الخليج على وجه التقريب، فحرب التحرير عام 1991، وصولا إلى غزو العراق في مارس عام 2003 وما تلاه من تداعيات استراتيجية مزلزلة لا تزال المنطقة تعاني منها حتى الآن.
ما أقصده أن التحديات ليست غائبة عن البيئة الاستراتيجية والأمنية التي تعيش دولة الإمارات في محيطها، فما تلبث التحديات أن تتراجع ثم تطل برأسها من جديد، وهذا ما حدث عندما اندلعت اضطرابات عام 2011 وتعرضت دول عربية رئيسية لهزات داخلية كبيرة، كما تعرضت دول ذات تأثير مباشر في الأمن الوطني الإماراتي مثل مملكة البحرين واليمن الشقيق لأخطار وجودية، كما عانت دول عربية عدة من انهيارات مؤسسية واضطرابات داخلية أسقطت مفهوم الدولة ذاته من قاموس هذه الدول، ما فتح الباب بدوره أمام تدخلات القوى الإقليمية المتربّصة بالأمن القومي العربي، والتي تتحين الفرص لتصفية الحسابات التاريخية، وتحقيق أحلامها وطموحاتها التوسعية. فقامت هذه القوى برسم خطط الانقضاض على ما تبقى من منظومة الأمن القومي العربي من خلال تطويق دول مجلس التعاون بحزام أيديولوجي ضاغط على خاصرة هذه الدول ومهدد لأمنها واستقرارها. واستعانت هذه القوى في تنفيذ مؤامراتها وتدبير مكائدها بوكلائها المحليين مثل جماعة الحوثي في اليمن وحزب الله اللبناني وعصابات وتنظيمات الإجرام والإرهاب المنتشرة في الكثير من الدول العربية التي تعاني الفوضى والاضطراب الداخلية.
وعندما تحتفل دولة الإمارات العربية المتحدة بيومها الوطني الخامس والأربعين فهي تحتفل أيضا بإنجازات قواتها المسلحة الباسلة، الحصن الحصين لأمن واستقرار الإمارات، وتطوي صفحة عام من التحديات الاستراتيجية الهائلة التي تصدت لها القيادة الرشيدة بفاعلية وتصميم وتماسك وثبات، لتعيد للأمن القومي العربي هيبته وقواعده الأساسية الذي تشكّل وفقا لها، وهي أن أمن كل دولة عربية هو جزء لا يتجزأ من الأمن الوطني الإماراتي.
وفي اليوم الوطني الخامس والأربعين تمضي مسيرة التمكين على درب التميز والنجاح وتثبت قيادتنا الرشيدة حرصها البالغ على توفير مقومات الحياة الكريمة لكافة شعب الإمارات الوفي، الذي يثبت هو الآخر يوما بعد آخر ولاءه وانتماءه العميق لقيادتنا الرشيدة وأرضنا الطيبة. وفي هذا اليوم المجيد أيضا، نتذكر شهداؤنا ونشد على أيدي أبنائنا ورجالنا من أبطال القوات المسلحة الباسلة المرابطين في ميادين الفخر والبطولة باليمن الشقيق، ممن يضربون المثل والقدوة في الوطنية والانتماء ويرفعون راية الإمارات عالية خفاقة في ساحات الشرف والمجد والانتصار ويدافعون عن الحق والعدل وقيم الإمارات الأصيلة ضد معتد أثيم وعدو غاشم لا يعرف للنخوة طريقا ولا للأوطان وحرمتها مرجعا أو سبيلا.