هل تعود سوريا التي أعرفها، كعربي عاشق لهذا البلد العريق، كما كانت في يوم ما؟ هذا السؤال يلح على ذهني ولا أجد له إجابة في ظل تعقيدات الوضع الراهن على الأرض.
قرأت مؤخرا تقريرا إعلاميا رسم المزيد من التشاؤم في عقلي وضاعف صعوبات إجابة التساؤل السابق، حيث تناول التقرير حقائق وأرقاما أثارت بدورها المزيد من التساؤلات بداخلي. تناول التقرير حجم المرتزقة وشركات الأمن العاملة في الصراع السوري، وتحدث عن شركة مقاولات عسكرية جهادية خاصة هي الأولى من نوعها في العالم.
ونقل التقرير عن مجلة “فورين بوليسي” الأميركية الشهيرة ما ذكرته عن شركة جهادية تدعى “ملحمة” على غرار “بلاك ووتر” الأميركية. وأكثر ما يفزع في التقرير أنه أشار إلى انتشار مفزع في سوريا لأنشطة تسويق المرتزقة والترويج للمعارك وبرامج القتال والتدريب التي وصفت بأنها فائقة التقدم عبر الإنترنت، وأن هذه البرامج باتت ذائعة الصيت وتلقى رواجا من تنظيمات الإرهاب.
الواضح أن فكرة التجارة الجهادية بهدف الإطاحة بنظام بشار الأسد باتت رائجة ومربحة جدا، واختلط الإرهاب بالسياسة بالمؤامرات بخطط القوى الإقليمية والدولية، وأصبحت سوريا ساحة مستباحة لكل هذه الأنشطة غير المشروعة.
الخبر السيء أن تقرير “فورين بوليسي” ينقل عن قياديي هذه المجموعات “التجارية” قولهم إن الطلـب على عناصرهم قـد تزايد بعد هـزيمة تنظيمات الإرهاب في مدينة حلب، وإنهم على استعداد لتقديم خدماتهم لمن وصفهم بالمسلمين السنة المضطهدين في أي مكان، مشيرا إلى الصين وميانمار كمكانين يمكن أن ينشط فيها “الجهاد” عبر شركتهم.
يقول التقرير أيضا إن “بزنس الجهاد” بات ظاهرة عالمية منذ سنوات، ولكنه لم يكن يمتلك من قبل هذه الروح في “ريادة الأعمال”، حيث تعلن الشركات الجهادية الجديدة عن حاجتها إلى وظائف مدربين وعناصر قتالية بشكل مغر للكثير من الشباب، حيث تظهر إعلاناتها عبر مواقع تواصل اجتماعي متضمنة مزايا شأنها شأن الشركات الكبرى، مثل الإجازات السنوية والعطلات الأسبوعية والتدريب وتطوير الذات وغير ذلك.
ومن خلال البحث عن المزيد عبر شبكة المعلومات الدولية وجدت أن المقاتلين السابقين من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق يلعبون دورا حيويا في تأجيج الصراع بسوريا من خلال عملهم كمستشارين عسكريين ومدربين، وأسهموا بشكل مؤثر في تطوير مهارات عناصر التنظيمات الإرهابية التقليدية العاملة في سوريا، وهذه التدريبات مكلفة ماديا للغاية ما يثير تساؤلات عن حجم تمويل تنظيمات الإرهاب في هذا الصراع.
هذه الشركات باتت لها مواقع عبر الإنترنت تنشر من خلالها دروسا مجانية في التدريبات العسكرية والتفجيرات وصناعة المفخخات والقنابل البدائية وغير ذلك، ويتوقع الخبراء نمو أنشطتها خلال السنوات المقبلة بشكل هائل، ضمن توجه عالمي يعرف بخصخصة الحروب والصراعات.
بصفة عامة، شركات المقاولات الخاصة ليست ظاهرة جديدة في الصراعات، بل هي قديمة قدم التاريخ ذاته، حيث تشير الدراسات إلى أن عناصر المـرتزقة كانوا جـزءا أساسيا من الجيـوش في مراحل ما قبل الميلاد ومنذ أيام إمبراطورية روما وحروب الفينيقيين ثم الإمبراطورية البيزنطية، ولكن هذا النمط البدائي تطور وتحول إلى شركات خاصة تقدم خدماتها للجيوش النظامية أو حتى تعمل في نطاقها ضمن ما يعرف بنظام “التعهيد” أو المتعاقدين من الباطن، واستخدمهم الجيش البريطاني ثم الأميركي بكثافة في أفغانستان تحديدا، حيث كان عدد سجل المقاولين المتعاقدين مع الجيش الأميركي في هذا البلد خلال عام 2013 نحو 85 ألف مقاول يقدمون شتى الخدمات من بينهم نحو 20 بالمئة يقدمون خدمات أمنية وتدريبية، والبقية يعملون في مجال الخدمات اللوجستية. وعالميا، تشير بعض التقديرات إلى أن شركات المقاولات العسكرية تجاوزت نصف مليون شركة في مختلف أرجاء العالم يقدر حجم أعمالها بنحو 100 مليار دولار تقريبا سنويا.
في ظل وجود هذا الكم الكبير من شركات المقاولات الجهادية وغير الجهادية، التي تعمل في خدمة الأطـراف الضالعة في الصراع في سوريا، هل يمكن بالفعل تطهير هذا البلد من كل هؤلاء؟
وهل يمكن أن تتم السيطرة على هذه العناصر وإعادتها إلى مواطنها الأصلية في حال التوصل إلى أي صيغة تنهي هذا الصراع المأساوي؟
وفقا لتقديرات معتبرة، هناك نحو 47 ألف مقاتل أجنبي من دول الاتحاد السوفيتي السابق فقط في سوريا، بخلاف جهاديي الدول العربية والأوروبية والآسيوية، ومعظم المقاتلين قادمون من الشيشان وداغستان، ويمتلكون خبرات قتالية كبيرة اكتسبوها خلال سنوات من القتال ضد القوات الروسية.
هذه الشركات في سوريا وقبلها العراق وأفغانستان تطرح إشكالية الأمن في القرن الحادي والعشرين وتسليع الحرب وفكرة بيع القـوة، وهي فكرة بالغة الخطورة والحساسية في ظل انتشار تنظيمات الإرهاب وانتقال أنشطة شركات الأمن الخاصة من الجيوش والدول إلى بيع خدماتها لهذه التنظيمات ولمن يستطيع الدفع أيا كان هدفه وغرضه.
عندما تتحول القوة إلى سلعة وخدمات الأمن إلى بزنس لمن يصفون أنفسهم بالجهاديين، فنحن بصدد ظاهرة بالغة الخطـورة تهدد الـدول والمجتمعات كـافة، وفي سوريا تحديدا هذه الظاهرة باتت الخطر الداهم على مصير الدولة وفرص عودتها إلى حاضنتها الجغرافية والجيوسياسية.