خلال أهم جلسات القمة الحكومية التي عقدت في دبي مؤخراً، ناقش صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، بحضور صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، فكرة في غاية الأهمية بالنسبة لعالمنا العربي، حيث تساءل سموه عن فرص استئناف الحضارة العربية، والخيارات والبدائل المتاحة على هذا الدرب الحضاري، ولم يكتف بطرح تساؤلات بل وضع خارطة طريق لازمة لذلك، وبعث رسائل مفعمة بالأمل تنبير دروب المستقبل لملايين الشباب الحائرين في مناطق شتى من عالم عربي يعاني في معظمه آفات الفساد والبطالة وسوء الإدارة.
قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم إن انشغاله بحالة العالم العربي ليس وليد اليوم، بل بدأ برسالة صريحة وجهها سموه إلى الحكومات العربية منذ أكثر من 12 عاماً، مفادها أن "عليكم أن تتغيروا أو أنكم ستغيرون"، ولا زلت، شخصياً، اذكر هذه الرسالة جيداً، واذكر أيضاَ أن الغالبية لم تستوعبها ولم تلتقط ما تشير إليه بشأن حتمية التغيير والمضي نحو المستقبل.
التغيير والتطور حتمية تاريخية، ومن لا يغير يتغير، والتاريخ يشير إلى ذلك بوضوح، ومن ثم فإن سؤال المستقبل الحقيقي الآن يتمحور بالفعل حول استئناف الحضارة، وهو أمر ملح ولا يعبر عن رفاه فكري كما يعتقد البعض، بل يكاد يكون طوق الإنقاذ الوحيد لمواجهة ما يعانيه عالمنا العربي من خطر الإحباط، الذي يمثل أحد مداخل التطرف، والوقود الذي يغذي تنظيمات الإرهاب، التي تتخذ من هذه اليأس الذي يملاً صدور شريحة من الشباب لاستقطابهم وتجنيدهم ضمن صفوفها، من خلال مداعبة أحلامهم وغسل أدمغتهم بفكر ضال غالباً ما يجد في أجواء التشتت والضياع بيئة خصبة لانتشاره وتوسعه.
جاء رهان صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم على الانسان العربي رائعاً وباعثاً على الامل الحقيقي في مواجهة أناس يغرسون الفشل بين جنبات منطقتنا، ويتهمون شباب العرب بأنهم غير قادرون على العمل والإنتاج، ناهيك عن الفكر والابداع والابتكار، ولكن سموه قالها بثقة "هذه المنطقة هي مهد الحضارة الإنسانية، وأنا متفائل.. فالإنسان هو الذي يصنع الحضارات والاقتصاد والمال، وإذا كان الإنسان العربي والمسلم قج نجح في بناء حضارة في الماضي، فهو قادر من جديد على استئنافها".
شخص سموه أيضاً مشكلة عالمنا العربي في غياب الإدارة، إدارة الحكومات والاقتصاد والموارد البشرية والبنى التحتية، معتبراً أن الإدارة العنصر الأهم الغائب حتى الآن ضمن عناصر القوة الشاملة، التي يمتلك العرب أدواتها ومقوماتها.
مشكلة الإدارة في دول عربية عدة هي مشكلة مؤرقة بالفعل ليس لأن حلها صعب، ولكن لعدم الاقتناع بوجود مشكلة من الأساس، وهذه هي أم الكوارث، فهناك في دول عدة إدراك يقيني بأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن الأطراف والعقول القائمة على العمل في مختلف مجالات الإدارة هي عقول تتمتع بقدرات خارقة في مجالاتها، رغم أن المقارنات المعيارية الإحصائية مع حالات مناظرة من دول متقدمة تشير إلى ضرورة استئصال هؤلاء من واجهة المشهد تماماً، واستبدالهم بعقول متفتحة وناقدة وتتقبل النقاش والحوار وتؤمن بالعمل الجماعي وتثق في قدرات الشباب والأجيال الجديدة.
الامارات تقدم لمحيطها الجغرافي نموذجاً ملهماً في التنمية الشاملة، ولكن الإشكالية أن البعض يأخذ من هذا النموذج ظاهره فقط، فيستنسخ البعض من الممارسات من دون أن يلج إلى جوهر النموذج، المتمثل في ما وراء الرؤى الاستراتيجية التي تضع خطوطاً عريضة للعمل واستشراف المستقبل.
في مواجهة مثل هذه المعضلات، علينا أن نلتقط بعض "وصفات" صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لمعالجتها، ومن ذلك قوله "لابد من وجود قادة، فصناعة القادة مهمة للغاية، ولا بد من وجود قيادة تعمل في الأوقات الحرجة، وإن شاء الله الجميع سيكون في صفنا عندما نكون في صف الناس"، هنا فقط تكمن روح أي عمل إيجابي، فالشعوب لديها حس تاريخي منقطع النظير، وتتعرف بسهولة على من يعمل لمصلحتها وتدعمه وتسانده، والعكس صحيح أيضاً.
ولاشك أن حلم التطور والتقدم يقف دونه عقبات كثيرة، في مقدمتها الفساد، الذي يكاد يفتك بالكثير من المجتمعات العربية، في حين أن علاجه كما قال سموه واضح شرط توافر الإرادة لتلقي العلاج "إن العضو الفاسد في جسم الإنسان يجب التخلص منه، والفساد في الحكومات والدول سبب التخلف، وفي أي بلد تستطيع تلمسه من اللحظة الأولى التي تصل فيها مطار البلد، الخطأ هو السكوت عن الفساد وكأنه يصبح هو القاعدة، وفي بعض الدول يصبح الفساد أمراً طبيعياً، ولكن هنا في دولة الإمارات أعدكم أنا وأخي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، أن لا نسمح بالفساد أبداً، ونحن مسؤولون أمام شعبنا، وعند الله أن لا نسكت عن خطأ".
مؤخراً، تحدث تقرير صادر عن منظمة الشفافية الدولية عن علاقة وثيقة بين الفساد والإرهاب، وقال إنه لا يمكن أبدا هزيمة تنظيم داعش مالم يتم التعامل مع الظروف الفاسدة التي تساعد التنظيم على النمو والتمدد. ويقول التقرير، الذي صدر بعنوان "المحفز الكبير"، إن التنظيم استغل الفساد لنشر التطرف والتجنيد طارحاً نفسه باعتباره البديل، وهذه كارثة بحد ذاته حتى لو صحت بنسبة ضئيلة!!
عندما يواجه العرب الفساد بنفس الإرادة والعزيمة والحزم، علينا أن نضع التوقيت الزمني لمسيرة استئناف حضارتنا، وحتى ذلك الحين سنواصل الاستماع إلى المكرر من الحديث ولغو الكلام من هواة تبرير الفشل والاخفاقات التي تدفع شعوبنا العربية فاتورتها باهظة حالياً ومستقبلاً.