من خلال متابعتي لمقالات الرأي والتقارير الصحفية المنشورة في الصحف العربية الآونة الأخيرة، لاحظت أن هناك توقعات تسود الغالبية بأن تنظيم "داعش" قد أوشك على الاندحار، وأن أيامه قد باتت معدودة في العراق وسوريا معاً، وما ضاعف هذه التوقعات أن بريت ماكغيرك، المبعوث الأمريكي لتنسيق عمليات تحرير الموصل، قد تحدث مؤخراً عن أن مسلحي تنظيم "داعش" الذين بقوا في المدينة العراقية سيموتون فيها، وذلك بعد أن تمكنت القوات العراقية من قطع الطريق الأخير الخارج من المدينة، ومحاصرة المسلحين في داخلها، لتنهي بذلك سيطرة التنظيم على ثاني أكبر المدن العراقية، التي احتلها منذ عام 2014.
قد يكون صحيحاً أن "داعش" يلفظ أنفاسه الأخيرة في العراق وسوريا، ولكن هذا ليس هو جوهر النقاش المفترض، فالإرهاب الداعشي لم يكن ليستمر تلك السنوات الطويلة بقوته الذاتية، فليس مقنعاً أن خمسون ألفاُ على الأكثر من عناصر "داعش" يمكنوا أن يسيطروا على مساحة أراضي تفوق مساحة كثير من دول العالم ، وأن يصمدوا أمام ضربات جوية ممتدة منذ أعوام لقوات التحالف الدولي بكل عدتها وعتادها العسكري الحديث!.
المسألة إذا أن "داعش" كانت مطلوبة على الأرجح لفترة كي تنتهي تفاهمات إعادة هندسة المصالح الاستراتيجية بين القوى الدولية الكبرى، والآن يجب أن يسأل الجميع أنفسهم السؤال الحقيقي: ماذا بعد "داعش"؟ وهل تنتهي حقبة الإرهاب بعد زوال التنظيم واندحاره على الأرض؟ الواضح أن الإرهاب كفكر لن ينتهي بسقوط "داعش"، بل إن التجارب التاريخية القريبة قد علمتنا أن أخطر مراحل الإرهاب تبدأ بعد انفجار هذه التنظيمات من داخلها وتشظيها وتفتتها وتحولها إلى فسيفساء مجهري يعمل كنواة لتشكل تنظيمات جديدة تحمل الفكر ذاته بتكتيكات مغايرة، أو تتبنى فكراً ومنهجاً مختلفاً بعد ثبوت فشل الفكر الداعشي وإخفاقه في الحفاظ على كيان "الدولة" التي وعد أنصاره واتباعه باستمرارها وتمددها كما كان يردد في إعلاناته ومنشوراته!!
الثابت في قصة الإرهاب أن أفكاره لا تنتهي، بل تعمل وفق تكتيك موجات المد والجزر، فتندحر وتتقدم بفعل عوامل معينة وفي ظروف وتوقيتات تختلف باختلاف الظروف ومعطيات البيئة الاستراتيجية المحيطة بالظاهرة. والعامل الخارجي وفكر "المؤامرة" هنا ليس مستبعداً تماماً، فهو أحد عناصر فهم مايدور من حولنا، شريطة الا يتملكنا هذا الفكر ويسيطر علينا كلياً. ومن ثم فإن من غير الدقيق القول بأن الإرهاب سينتهي بانتهاء "داعش"، بافتراض أنها ستلقى مصير "القاعدة" بالتفكك أو الانحسار والضعف ودخول مرحلة الأفول، فما زال التنظيم يمتلك موارد مالية وبشرية كبيرة، وقادر على تغيير التكتيكات والعمل بشكل مغاير للمرحلة السابقة، لاسيما أن قائده وزعيمه الروحي أبو بكر البغدادي لا يزال على قيد الحياة، ومن الممكن أن يكون بقائه النواة الصلبة التي تحفظ للتنظيم كيانه ومقدرته على البقاء والمقاومة والصمود لفترة قد تطول أو تقصر بحسب الظروف.
ماذا بعد داعش إذاً ليس سؤالاً إجبارياً وحيداً، بل هو أحد الأسئلة أو البدائل التي تستحق النقاش خلال الفترة الراهنة، فمن السابق لأوانه الحديث عن مصير التنظيم، لاسيما أن مصير المناطق المحررة من قبضته لا يزال مجهولاً، وقد يكون نشوب صراع نفوذ دولي حول هذه المناطق الثغرة التي يعود منها "داعش" إلى ممارسة نفوذه رافعاً راية "المقاومة" المزعومة أو غير ذلك.
من واقع اهتمامي البحثي بالظاهرة الإرهابية وتأصيلها تاريخياً، أدرك أن الإرهاب يعمل في سلاسل متواصلة جيلاً بعد آخر، فقد كانت "القاعدة" هي الجيل الثاني بعد التنظيمات الأصولية الجهادية التي تشكلت في ثمانينيات القرن العشرين في مصر والجزائر وغيرها، وبعد تفكك "القاعدة" عملياً وأفول نجمها عقب مقتل مؤسسها وزعيمها أسامة بن لادن في باكستان عام 2011، برزت "داعش" جيلاً ثالثاً للإرهاب يتبنى مفهوماً مغايراً قائماً على إقامة "الخلافة"، والسيطرة على الأرض، بعد أن انحصر الجدال لعقود طويلة بين تنظيمات الإرهاب محصوراً في جدلية محاربة العدو القريب أم البعيد، فجاء "داعش" ليعمل وفق نهج أكثر دموية وعنفاً مطبقاً المنهج الوارد في كتاب "إدارة التوحش: أخطر المراحل التي ستمر بها الأمة"، وهو كتاب "قاعدي" بالأساس ولكن تلقفته عناصر "داعش" لتطبق ما ورد فيه حرفياً، بل إن مؤلفه، محمد خليل الحكايمة، كان ينتمي إلى "القاعدة فكرياً وتنظيمياً، حيث قسم مراحل تطور الأمة في العصر الراهن إلى ثلاث مراحل هي "جهاد النكاية" ثم "عموم الفوضى" ثم التمكين وتأسيس الدولة الإسلامية" عبر إدارة الفوضى في المناطق التي يضربها التوحش، وكانت العراق في البداية "مختبراً" نموذجياً لتنفيذ هذا الفكر، ثم ما لبثت سوريا أن انضمت إليه في ظل الفوضى التي ضربتها.
المتوقع في ضوء ما سبق، أن يأتي بعد "داعش"، جيلاً ارهابياً أكثر تطوراً وشراسة من "داعش"، لذا فإن من المهم أن يدرك الجميع أن الخطر لا يقتصر على "داعش" بل يتمثل أيضاً في الأسباب التي تغذي الظاهرة الإرهابية بشكل عام، وهنا يجب التفرقة بين أسباب كامنة في العالم العربي والإسلامي مثل التطرف والتشدد ومناهج التعليم والفقر والفساد والبطالة وغير ذلك من عوامل، وبين أسباب أخرى كامنة في الغرب، الذي تحظى تيارات معاداة الإسلام فيه بدعم شعبي ورسمي متزايد، فظاهرة "الإسلاموفوبيا"، على سبيل المثال، تنمو وتنتشر بشكل مخيف في دول غربية عديدة، وهناك توجهات رسمية معادية للإسلام والمسلمين باتت تتفاقم في بعض دول الغرب، وهذه الممارسات ليست سوى هدايا مجانية، أو قبلة حياة في توقيت مناسب لتنظيمات الإرهاب التي تحتضر !.