قرأت في الآونة الأخيرة بعض المقالات المهمة التي تناولت فكرة استعادة الخطاب الديني، وكان كتابها يعلقون على نقاشات مؤتمر مهم عقده الأزهر الشريف في القاهرة، حيث دعا بعض الحاضرين إلى استعادة الخطاب الديني من المتشددين وأنصاف المتعلمين وهي نبرة جديدة ـ قديمة في الحديث عن الخطاب الديني، حيث اعتدنا في السنوات الأخيرة أن يردد الجميع الدعوات إلى "تجديد"الخطاب الديني، ويتفنون في تبرير هذه الدعوات وتأكيد أهميتها ومدى الحاحها!
لا أنكر هنا أهمية فكرة استعادة الخطاب الديني من المتطرفين والإرهابيين، ولكن قناعتي في مجمل الأحوال أنه ليس مهما إن كان الأمر يتعلق باستعادة الخطاب او تجديده أو تحريره، فالأولوية عندي هي لمكافحة التطرف والإرهاب والفكر المتشدد، وما يهمني في أي جهد على هذا الصعيد هو العمل ثم العمل ثم العمل وترجمة الدعوات والمطالبات والنداءات إلى برامج عمل وخطط قابلة للتنفيذ، لأن المراوحة بين قاعات المؤتمرات والمحاضرات لن تجدي نفعاً، ففي كل ساعة يقضيها المناقشون في أحوال الخطاب الديني يخسر المسلمون مساحات جديدة في عقول شبابهم لمصلحة هؤلاء المتطرفين، الذين يصولون ويجولون عبر الفضاء المعلوماتي، حيث نجحوا في توظيف موارد عصر العولمة التقنية في نشر أفكارهم والدعوة إليها وملئوا مساحات فراغ شاغرة جراء تخلي المؤسسات الدينية والدعاة عن دورهم الحقيقي وتفرغت غالبيتهم لملء مساحات البث التلفزيوني في برامج لا يشاهدها سوى ربات البيوت والمتقاعدين والمسنين وتركوا شبابنا فريسة سهلة للمتشددين عبر ساحات الانترنت ومنصاته ومنابره المؤثرة!
شخصياً، لا اعتبر الخطاب الديني مختطفاً من قبل هذه الجماعات، فالاختطاف له شروط، منها أن يطالب المختطفون بفدية أو أن يكونوا قد ارتكبوا جرمهم سعياً وراء الحصول على مقابل ما أو ابتزاز شخص أو جهة ما، أو حتى المطالبة بتحقيق أهداف معينة يشير تاريخ عمليات الاختطاف إلى أنها تتراوح بين دعوات لإطلاق سراح أسرى وسجناء، أو حتى جذب الأنظار لموضوع أو قضية ما قد تكون عادلة ولكن المطالبة بها تنحرف إلى وسائل وسبل غير مشروعة قانونياً.
ويبدو أننا، كمسلمين ودول إسلامية، قد اكتشفنا متأخراً أن الخطاب الديني قد اٌحتل من قبل تنظيمات الإرهاب، والجماعات المتطرفة، ليصبح حاله حال الكثير من المدن العربية العريقة التي وقعت بين براثن هذه التنظيمات والجماعات في الأعوام الأخيرة.
الحاصل أن الخطاب الديني قد عانى في الأعوام الأخيرة إشكالية صعبة تتمثل في المطلوب بالنسبة له تحديداً، فقد استغرق الجميع سنوات طويلة، نظمت خلالها مؤتمرات ومحاضرات وندوات طالبت جميعها بتجديد الخطاب الديني، واختزلت دعواتها ونقاشاتها في فكرة الدعوة إلى "التجديد"، وانخرط الكثيرون في صراعات فكرية محتدمة بين التجديد والتحديث والعصرنة وغير ذلك من مفردات ومفاهيم اخذت منا وقتاً طويلاً، ثم استيقظنا فجأة على طي صفحة "التجديد"لنكتشف أن ما نطالب بتجديده ليس بين أيدينا بالفعل بل هو أسير مختطف لدى آخرين!
كيف كنا نطالب بتجديد الخطاب الديني في حين أنه كان مختطفاً من قبل تنظيمات الإرهاب؟ وكيف اكتشفنا واقعة الاختطاف هذه؟ وهل الخطاب الديني بالفعل مختطف أم قديم عفا عليه الزمن، أم أسير أو محتل؟ أم أن ذلك كله صراع مصطلحات لا يعبر عن واقع الحال، وأن أزمة أمتنا الإسلامية ليس في الخطاب الديني فقط، بل هي أعمق من ذلك بمراحل، وأن إشكاليات الخطاب الديني والبحث فيها ليس سوى نوع من البحث في قشور المسألة لا في جوهرها!!
وسواء كان الخطاب الديني مختطفاً أم أسيراً أم محتلاً، فالكل سواء، والمؤكد الوحيد في المسألة أنه لم يعد بأيدي التيار الأعرض من المسلمين ولا على ألسنة علمائهم المعتدلين ورجال الدين المعتبرين، بل انتقل إلى أبواق الفتنة وخنادق الإرهاب ومنصات التطرف، وبالتالي فإن التحرك الإيجابي نحو استعادة أو تحرير أو استرجاع أو حتى بناء خطاب ديني بديل معاصر لذاك المختطف أمر حيوي للعالم العربي والإسلامي في ظل هذا الحصار التآمري، الذي يواجه الإسلام والمسلمين من جانب دوائر غربية عدة.
وبعيداً عن إشكالية التوصيف الخاصة بوضعية الخطاب الديني، فإنني شخصياً اتشكك في فاعلية أي جهود تستهدف إبعاد الشباب عن التطرف والتشدد ما لم يكن أي جهد في هذا الإطار نابع من قاعدة موثوقة، ويمتلك من قوة الاقناع الواقعية ما يفرض احترامه وقابليته على الجيل الجديد، لذا فإن الاكتفاء بالدعوات الروحانية في ظل واقع مجتمعي قاتم ومعضلات تحاصر الشباب، لن يجدي نفعاً، فالمفاضلة في هذه الحالة لن تكون بين خطاب عقيم وآخر جذاب، بل بين القبول او التعايش مع واقع بائس من ناحية والاستسلام لرغبة عاتية في الهروب أو الانتقام من ناحية ثانية!
قبل أن نتحدث عن الخطاب الديني وفاعليته، وهذا أمر غاية في الحيوية والضرورة، فلابد من تبديد مناخ اليأس والإحباط ونشر الإيجابية والأمل والتفاؤل من خلال خطط وبرامج عمل وجهود واضحة تستهدف المستقبل وتمضي في طريقه لتمهد الدروب لشباب ينتظرون بارقة امل تنير لهم دروب المستقبل.