بداية لابد من التأكيد على أنني، كباحث، لا تربطني أي علاقات مصالح من أي نوع مع مشيخة الأزهر ولا جامعته، وبطبيعة الحال ولا مع الإمام الأكبر فضيلة شيخ الأزهر الوقور الدكتور أحمد الطيب، ولكن أساهم بمقالي هذا في نقاش تجدد عبر وسائل التواصل الإعلامي وبرامج "توك شو" متفلزة على خلفية الاعتداء الإرهابي الآثم على كنيسة "مارجرجس"والكنيسة "المرقسية"في مصر.
بادر البعض من "النخب" بإلقاء جانب من المسؤولية على فضيلة شيخ الأزهر واتهموه بالتقصير في التعامل مع هذا الاعتداء الإرهابي الغادر، وأنه كان من المفترض أن يفعل كذا وكذا وكذا ... إلخ من التوصيات والإملاءات التي يبرز من بينها، على سبيل المثال، عقد مؤتمر صحفي عالمي لإعلان براءة الإسلام من هذه الاعتداءات الإرهابية وتكفير مرتكبيها والداعمين والممولين والمخططين!
اكتشفت في بداية التفكير في هذه القائمة الطويلة من "الطلبات"أن شيخ الأزهر لم يكن موجودًا في مصر وقت الاعتداءات، وأنه كان في مهمة عمل خارج البلاد. وعلى حد ما نشر ويعلمه الجميع، فقد بادر الأزهر بإرسال وفد من ممثليه للتضامن مع الكنائس كما أصدر بيانًا قويًا واضحًا وضوح الشمس، أدان فيه بشدة "التفجير الإرهابي الخسيس"، وشدد على أن "هؤلاء الأبرياء الذين راحوا ضحية الغدر والخيانة، عصم الله دماءهم من فوق سبع سماوات، وأنَّ هذا الحادث الأليم تعرَّى عن كل معاني الإنسانية والحضارة" ... ألخ ما ورد في نص البيان المنشور في مختلف المواقع الإلكترونية.
على حد متابعتي، فإن شيخ الأزهر يبذل مجهودًا كبيرًا لتخليص صورة الإسلام من مختطفيها، فقد ذهب إلى الفاتيكان وأجرى محادثات مع البابا فرانسيس، واتفقا على عقد مؤتمر للسلام خلال زيارة البابا التاريخية لمصر نهاية شهر أبريل الجاري.
يحاول شيخ الأزهر الدفاع عن الإسلام والمسلمين في مواجهة هجمة شرسة، ويمشي في مساره هذا على خيوط رفيعة وحادة، ومع ذلك لا يسلم من الاتهامات والحملات، ففي كلمته أمام مؤتمر "نحو حوار إنساني حضاري من أجل مواطني ميانمار"خلال شهر يناير الماضي، وهو المؤتمر الذي نظّمه مجلس حكماء المسلمين برئاسة الطيب للدعوة إلى السلام بين أطراف النزاع في ولاية "راخين"بميانمار، التي تقطنها أقلية "الروهينغا"التي تدين بالإسلام، في هذا المؤتمر قال الدكتور الطيب : إنّ البوذية دين إنساني وأخلاقي في المقام الأول، وإن "بوذا"هذا الحكيم الصامت هو من أكبر الشخصيات في تاريخ الإنسانية، وكان من أبرز صفاته الهدوء والعقلانية، وإنّ كبار مؤرخي الأديان في العالم يصفون رسالته بأنها دين الرحمة غير المتناهية، وأن صاحب هذه الرسالة كان وديعًا مسالمًا غير متكبر، وكانت وصاياه تدور حول المحبة والإحسان إلى الآخرين". هي كلمات إنسانية ودعوة للتعايش الإنساني تعكس فهماُ عميقًا للإسلام السمح في أبهى صوره، ولكن هذا الأمر لم يرضي أيضًا البعض فاتهموه بالتفريط بل وذهب البعض لاتهامه بالخروج عن الملة!!!
زعم البعض في هجومهم أن فضيلته اعتبر البوذية دينًا، وأن في ذلك مخالفة لتعاليم الإسلام، وتناسى هؤلاء الجهلاء أن الإمام الطيب قبل ان يكون شيخ الأزهر هو أستاذ عقيدة وفلسفة أديان، ويتحدث عن علم هو أدرى به ولا يقول ما يعلم!! قال فضيلة الدكتور الطيب عن البوذية إنها دين انساني، فماذا في ذلك؟ ألا ينطوي هذا الكلام على فطنة وبلاغة لغوية تستحق التقدير؟
يريد شيخ الأزهر أن يكرس صورة الإسلام التي تقبل الآخر، وتكفل حرية العقيدة، وتنبذ التعصب وكراهية الآخر، ومع ذلك وجد من يتهجم عليه، فلا هو مقبول ممن يزعمون الدفاع عن الدين وحمل رايته من تنظيمات الارهاب، فشيخ الأزهر، كما هو معلوم، مدرج على قوائم اغتيالات "داعش"، حيث نشر التنظيم قائمة على رأسها الدكتور أحمد الطيب، ودعا أنصاره في مصر إلى ما أسماه عملية "الذئاب المفترسة"لاغتيال بعض الشخصيات ومنهم شيخ الأزهر، ومواقفه ليست مقبولة أيضًا من دعاة "اللبرلة"والحريات، الذين يريدون منه الانزلاق إلى فخ التكفير والسير على درب "داعش"في تكفير هذا وإهدار دم ذاك.
لو افترضنا أن شيخ الأزهر خرج علينا ذات يوم ليعلن تكفير تنظيمات الإرهاب ويهدر دمائهم، فماذا تبقى لصور ة هذه المؤسسة العريقة (الأزهر الشريف) إن هي تشبهت بـ "داعش"و"القاعدة"؟ وماذا تبقى للعلماء إن هم مضوا وراء البغدادي والظواهري وغيرهم ونافسوهم في دعوات التكفير والقتل وسفك الدماء؟ ألي في ذلك غطاء شرعي لمضي هذه التنظيمات على درب القتل وسفك الدماء؟!
شيخ الأزهر إذًا بات متهم بالتفريط من جانب البعض ومنهم متشددين وارهابيين، وعلى الجانب المقابل هو متهم كذلك بعدم القيام بمسؤولياته حيال الإرهاب من جانب آخرين!!
أدرك أنها مسؤولية ضخمة على كاهل من يتولى مثل هذا المنصب، ولكن محاربة الإرهاب لن تتحقق عبر مؤتمر صحفي عالمي لإعلان براءة الإسلام من الإرهاب كما يزعم المطالبون بذلك، وهل يحتاج الإسلام إلى "إعلان براءة"من الأساس؟ أليس في ذلك تسليمًا بالزعم القائل بأن الإرهاب هو الوجه الآخر للإسلام؟!!
الثابت في هذا الجدال العقيم أن شيخ الأزهر الإمام أحمد الطيب هو من أعاد فتح قنوات الحوار مع الفاتيكان بعد سنوات طويلة من القطيعة بل والعلاقات المتوترة بين الجانبين، وأكد صراحة خلال لقاء البابا في الفاتيكان على "إننا نحتاج إلى مواقف مشتركة يدًا بيد من أجل إسعاد البشرية لأن الأديان لم تنزل إلا لإسعاد الناس لا إشقائهم". كلمات تعكس فهمًا عميقًا ورؤية حضارية يحتاجها العالم بشدة، ولكن البعض من المتطرفين، يمينًا ويسارًا، ربما لا يرضيهم هذا ولا ذاك!!.
الهجوم على الأزهر وشيخه لن يخدم سوى تنظيمات الإرهاب، بل يقدم خدمة مجانية لهذه التنظيمات، ويضعف موقف المؤسسات الدينية المعتدلة في وقت يبدو العالم الإسلامي أحوج ما يكون إليها!!