اتت هزيمة تنظيم "داعش" عسكريًا في العراق وسوريا مسألة وقت بعد انهيار "عاصمة" خلافته المزعومة في "الرقة"، وهي المدينة التاريخية العريقة، التي انتهى بها الحال في زمن الإرهاب وتنظيماته، إلى أن تكون عاصمة لهؤلاء الأوغاد في سوريا، بعد أن كانت عاصمة ثانية لولاية الخليفة العباسي المنصور وأيضًا في عهد الخليفة هارون الرشيد، الذي اعتنى بها إلى جانب عاصمته الرئيسية بغداد، وبنى فيها القصور والمساجد، ولكن دمرت تمامًا خلال الغزو المغولي مثلما حدث لعاصمة الخلافة الإسلامية وقتذاك، بغداد.
هزيمة "داعش" المحتملة تعني للمتخصصين أمور ثلاثة مهمة تستحق النقاش والدراسة، أولها كيفية تحصين المناطق والمدن التي كان يحتلها التنظيم في سوريا والعراق، من الموصل وحتى الرقة، لضمان تطهير هذه المناطق من الفكر المتطرف وعدم ظهور تنظيمات جديدة على أشلاء تنظيم "داعش"، أو محاولة إحياء التنظيم من جديد في هذه المناطق، لاسيما أن التجارب التاريخية تفيد بأن تنظيمات التطرف لها "دورة حياة" ومد وجزر، وتعود في كثير من الحالات وبصورة أكثر وحشية مما سبق، فداعش نفسه "نسخة" أكثر تطورًا من الناحية التنظيمية والخبرات مقارنة بتنظيم "القاعدة"، الذي هو عبارة عن أحد "أطوار" الفكر الجهادي وتنظيماته التي ولدت في بعض الدول العربية خلال حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، وهذه بدورها كانت نتاجًا لأفكار متطرفة كانت تسكن الكتب والمؤلفات الخاصة بمنظري التشدد والتطرف في جماعات مثل "الإخوان المسلمين" وتيارات أخرى لا يمكن لأي باحث إنكار دورها في التسلسل التاريخي للفكر الإرهابي.
والأمر الثاني يتعلق بمصير مئات الهاربين والعائدين من "جنة الخلافة" المزعومة في الرقة والموصل، فالبعض من هؤلاء كان يعود إلى بلاده في السابق، كما حدث مع "العرب الأفغان" الذين شاركوا في الجهاد ضد الاحتلال السوفيتي السابق لأفغانستان، ثم عادوا إلى بلادهم وكانوا نواة لتنظيمات إرهابية جديدة تمارس نشاطها حتى اليوم عبر الأجيال الثانية والثالثة من الإرهابيين، عدا قليل من الرعيل الإرهابي الأول مثل أيمن الظواهري زعيم تنظيم "القاعدة" وبعض منظري التنظيم الآخرين.
في ظل الظروف الدولية الراهنة والحرب ضد الإرهاب، من الصعب توقع عودة معظم العناصر الأجنبية المقاتلة ضمن صفوف "داعش" إلى دولها، فهم يعرفون أنهم ملاحقون، وسيتم اعتقالهم، وبالتالي الأرجح أنهم سيبحثون عن ملاذات آمنة جديدة للهروب إليها، خصوصًا أن "صناعة القتل" وسفك الدماء باتت "حرفة" لدى هؤلاء، ومن الصعب التخلي عنها، على الأقل لأنها تدر عليهم دخلا ماديا كبيرا لن يجدوه سوى من خلال استمرار هذه الأنشطة الاجرامية.
وهناك العديد من المناطق والدول مرشحة لأن تكون ملاذات آمنة جديدة لهؤلاء العائدين، ولكن الجانب الأخطر يتمثل في نجاح البعض منهم في التخفي والتمويه والعودة إلى بلاده لممارسة نشاط التجنيد أو ارتكاب جرائم إرهابية جديدة، أو ربما يشعرون بالغرور عقب انفراط عقد "الخلافة" ويقومون بتشكيل تنظيمات عنقودية صغيرة تتبنى الفكر الداعشي وتعمل لمصلحة "وكلاء" آخرون موجودون بالفعل في منطقتنا، أو ربما يتم البحث عنها وعرض الخدمات عليهم، وهذا أمر يسير، والشواهد تؤكد أن هؤلاء سيجدون ضالتهم في بعض الدول والأجهزة الاستخباراتية التي ترعى الإرهاب في الشرق الأوسط!
الأمر الثالث يتعلق بالحرب ضد الإرهاب في الفضاء الإلكتروني، أي عبر شبكة المعلومات الدولية "الإنترنت"، واعتقد أنها الساحة الأصعب والمعركة الأكثر مشقة في هذه الحرب طويلة الأمد، صحيح أن هناك مراكز متخصصة تحظى بقدرات وإمكانيات عالية التقنية باتت تعمل في مواجهة تنظيمات الإرهاب في الفضاء الإلكتروني، مثل مركزي "هداية" و"صواب" في دولة الإمارات، ومركز "اعتدال" الذي دشن في المملكة العربية السعودية خلال القمة الإسلامية ـ الأمريكية، فضلًا عن جهود الأزهر الشريف وعلماء العالم الإسلامي المعتدلين، ولكن لا يزال الإرهاب يتحرك بحرية عبر الفضاء الالكتروني، ومن السابق لأوانه القطع بأنه تم تحرير الإنترنت من قبضة الإرهاب، وقد نستغرق في ذلك سنوات طويلة!
هذه التوقعات ليست متشائمة، ولكنها تنطلق من تحليل واقع الحال، فقد تركنا الفضاء الإلكتروني ساحة مستباحة لتنظيمات الإرهاب طيلة العقدين الماضيين، وأصبح لديها بنية تحتية ضخمة ومتشعبة ومنتشرة، ومتعاطفون ربما يقدر عددهم بالملايين، ومن ثم فإن الحاق هزيمة إلكترونية بتنظيمات الإرهاب قد تكون مسألة أكثر صعوبة من هزيمتها عسكريًا!
مؤخراّ، حذرت هيئة الأمن الفدرالية الروسية من أن تنظيم "داعش" الإرهابي يتكيف بنجاح مع الوضع المتغير ويستعيد قدراته بسرعة رغم خسائره الكبيرة، وقال مدير هيئة الأمن الفيدرالية ألكسندر بورتنيكوف في اجتماع لمسئولي أجهزة الأمن والاستخبارات في رابطة الدول المستقلة إن "داعش" يجري حملة دعائية واسعة ويستغل بنجاح وسائل التواصل الإلكترونية ويستخدم حججا دينية واجتماعية لجذب ممثلي مختلف الفئات الاجتماعية، وقبل كل شيء الشباب، إلى صفوفه، وقال المسئول الأمني الروسي إن مسلحين من تنظيم "داعش" يعودون إلى رابطة الدول المستقلة ويشكلون هناك خلايا سرية.
ومن ثم يجب علينا أن نعطي أهمية أكثر للحرب ضد الإرهاب عبر الإنترنت، فهي بوابة انتشار ما يعرف بالذئاب المنفردة، الذين تزايدت جرائمها في الآونة الأخيرة، وهي الظاهرة التي يمكن أن تمثل المرحلة المقبلة من الظاهرة الإرهابية، بحيث تختفي التنظيمات بشكلها الهرمي والتنظيمي التقليدي، وتتحول إلى تجمعات فردية أو خلايا عنقودية صغيرة تتواصل عبر الانترنت، وهنا سيتفاقم الخطر وتصبح مهمة الأجهزة الأمنية في غاية الصعبة والمشقة في العمل الاستباقي على وجه التحديد، فلا تجمعات ولا تحركات ولا أنشطة ملموسة، بل ولا أدوات جريمة يمكن تتبعها، بحيث يصبح الخطر كامن في "الرءوس"، التي يمكنها التمويه والتخفي وممارسة "التقية" حتى تتحين لحظة أو فرسة مناسبة لارتكاب الجرائم!
الخلاصة أن ما بعد "داعش" قد يكون أخطر مما قبله، وعلينا الحذر من تطور الظاهرة الإرهابية جيليًا وزمنيًا، وعلينا إخضاع كل مفرداتها ومعطياتها للبحث والدراسة العلمية الجادة بدلًا من الاكتفاء بمراقبة الشواهد القشرية السطحية لهذه الظاهرة العميقة.