لا اعتقد أن هناك حدثاً عالمياً استطاع أن يخطف الأضواء الإعلامية واهتمامات الشعوب في العالم أجمع أكثر من متابعة مباريات بطولة كأس العالم لكرة القدم في روسيا ، وهذا بحد ذاته يعني الكثير بالنسبة للباحثين وفي ذلك يمكن استخلاص ملاحظات عدة ؛ أهمها باعتقادي أن الرياضة لم تعد بالفعل نوع من الرفاهية بل احد أخطر وأهم أدوات القوة الناعمة للدول والشعوب، فمن خلال كرة القدم تعرف العالم أجمع على تجارب دول مثل ايسلندا والسنغال ونيجيريا، وتابع التحولات في موازين القوى الدولية العالمية في الرياضة ، وكيف لفرق عتيدة مثل الأرجنتين ان تهزم في مواجهة فرق صاعدة واعدة ، وكيف تعكس الرياضة الكثير من أوجه التقدم والتطور الحياتية في الدول ، وكيف يتنقل الجمهور بحماس لافت وراء الفرق الوطنية دعماً وتشجيعاً لها .
تابعنا أيضاً الفروقات بين حماسنا لمنتخباتنا ، وحماس الآخرين ، وكيف أن المنتخبات هي نسخة طبق الأصل من معظمنا ، كعرب ، تنهار بمجرد إصابة مرماها بهدف او هدفين، وكيف يتملكها الإحباط بعد تلقي هزيمة، وكيف تنظر للهزائم بحسابات الأهداف وليس بحسابات الأداء، وتنظر للأمر من منظور الكرامة الوطنية مع إن المسألة برمتها منافسة رياضية يجب ألا تتحول إلى معركة حربية، ولا إلى صراعات ثأرية!
ربما غاب عن الكثير من العرب التخطيط وعلم الإدارة في شؤون الحياة اليومية وإدارة الاقتصادات والتعليم والصحة والبنى التحتية وغير ذلك من أمور استراتيجية، وهذا ما تتحمل الدول فاتورته وتدفع أثمان باهظة لعلاجه في الوقت الراهن، غياب التخطيط أيضاً في الرياضة أمر له عواقبه، فقد احتفينا بوصولنا إلى كأس العالم وطوينا صفحة المنافسات التمهيدية بكل ما فيها من أخطاء وعثرات، ولم نستفد من أخطائنا وبالتالي لم نعالجها، وتساهلنا مع الهزائم في المباريات الودية، عن قناعة لا أساس لها أن الأمور تعالج نفسها في المباريات الرسمية، فلم تدق الهزائم الودية أجراس الخطر لما هو قادم، بل اعتبرنا أن الهزائم مؤشر على الخير المقبل من دون أن يفسر لنا أحد ما هو سر هذا التفاؤل العشوائي!
أليس المقدمات تنبئ بالنتائج، كما يقول منطق الأمور، فكيف نعتمد على هزائم متتالية وكبيرة في توقع انتصارات قادمة، وكيف لمن لم يفز في مباراة تجريبية يلعبها بأعصاب هادئة ومن دون ضغوط تذكر أن يحقق الفوز في مباراة رسمية يرزح فيها تحت ضغوط متعددة!! الإشكالية أننا نواصل التفكير بهذه الطريقة البائسة ، ويذهب الجميع إلى تبرير الهزائم ويحيلها إلى مبررات واهية تتعلق بعناصر خارجية لا علاقة لها باللعبة والتدريبات ولا الخطط ولا إمكانيات اللاعبين ولا معايير انتقائهم ، بل ترتبط بالتفاؤل والتشاؤم في معظمها !
عندما يغيب التفكير العلمي او العقلاني ويتغلب الحماس قد نحقق انتصار في مباراة أو مباراتين أو حتى نفوز ببطولة محدودة الانتشار ، ولكن هذا لا يعني أننا نتطور رياضياً وأننا نحقق الهدف من الرياضة، فالمسألة لا تتعلق بالاستحواذ على البطولات والكؤوس فقط ، بل ترتبط بالاهتمام بقطاع الشباب ورفع مستويات الطموح الوطني ومعنويات هؤلاء الشباب ورسم أفق مستقبلي مبشر لهم، ومن لا يعتقد في ذلك عليه أن يراجع لدقائق بسيطة ما ينشره شباب الدول المشاركة في بطولة كأس العالم بروسيا من "بوستات" محبطة تعكس عمق خيبة الأمل التي أصيبوا بها بعدما حلموا بالنجاح في صورة منتخباتهم.. حلموا بمقدرتهم على بلوغ العالمية من خلال أقدام لاعبيهم.
هؤلاء الشباب الواعدين في دولنا العربية، وهم بعشرات الملايين، يحلمون بمستقبل افضل يريدون صناعة الأمل ولو من خلال انتصار كروي في كأس العالم، هم يدركون أنه لا علاقة لمستقبلهم بفوز كروى، ولكنهم ينتظرون شحنة معنوية هائلة تدفعهم للأمام، ومن يشكك في ذلك عليه أن يبحث فى أسباب الشعبية الكاسحة للنجم المصرى العربى محمد صلاح في الدول العربية جميعها ، وهي شعبية نسفت كل ما قيل ويقال عن تنافس واحقاد بين الشعوب العربية، فالجميع يهفو إلى بطل او نجم عربي قادر على منافسة الغربيين في عقر دارهم، بطل يستمدون منه القدوة والنموذج ويمنحهم الثقة في النجاح والمستقبل.
لم تفكر دولنا فى كيفية توظيف بعض النجاحات، على قلتها، فى شحن طاقات الشباب العربى وتركنا أبطالنا فى الرياضة والعلوم والتعليم فريسة لشركات الإعلانات تتاجر بهم وتتربح من ورائهم ، وهذا هدف مشروع بطبيعة الحال للشركات واللاعبين أنفسهم، ولكن كان ينبغي أن نستفيد من هذه الطاقات والمواهب والمبدعين في بناء أحلام وطنية وقومية تنتشل ملايين الشباب من السقوط بين براثن الإحباط، ومن ثم يصبحون فريسة سهلة لأفكار الفاشلين والمتشددين والحاقدين والمغرضين.
كرة القدم والرياضة عموماً باتت صناعة ضخمة واقتصاد كبير يجلب السياحة ويرسم صور نمطية، إيجابية أو سلبية، للدول والشعوب، ونحن نكرر ذلك في إعلامنا كثيراً ولكننا لا ننفذ متطلبات هذا الإدراك ، من تخطيط ووعي ودراسة، والوقت لم يفت بعد، فلدينا كل الإمكانيات وكل الموارد، المادية والبشرية، فقط ينقصنا التخطيط والإدارة البعيدة عن المحاباة والمجاملات والقائمة على العلم والخبرات الحقيقة، لا على المعارف والأصدقاء والشللية ، وعلينا أن نتحرك لننظر للرياضة من منظور تنموي واسع، ونرى كيف أن صورة إيجابية للاعب عالمي واحد قد حققت لمصر ترويجاً سياحياً أكثر مما حققته جميع الحملات التسويقية والترويجية بكل ما أنفق عليها من ملايين الدولارات، علينا أن ندرك أن العالم ينظر للنجاح وان فاعلية الترويج والاعلان لم يعد كما كان في السابق ، فالشباب باتوا قوة محركة عالمية هائلة وعلينا أن نتابع مجالات اهتمامهم ونتواجد بإيجابية حيتما وجدوا، وبما اهتموا وتابعوا .