أصبح مصطلح «الابتكار» في السنوات الأخيرة أحد متلازمات الحديث عن النهضة والتطور والتنافسية العالمية، بل بات محور قمة عالمية للابتكار، استضافت مدينة دبي نسختي 2017 و2018 من هذه القمة الفريدة، التي شارك فيها أكثر من ألفين من المبتكرين، وتناقش عادة تحديات الابتكار في قطاعات الطاقة المستدامة والمدن الذكية والتعليم والرعاية الصحية والنقل والصناعة وغيرها من قطاعات التنمية.
الابتكار دعامة وركيزة أساسية للتغيير الإيجابي للمجتمعات والاقتصادات من خلال تطوير تطبيقات التكنولوجيا والتقنيات عالية المستوى، ونظرة واحدة لتطبيقات العلم من حولنا جديرة بأن تكشف قيمة ومكانة الابتكار في حياة العالم، حيث تتيح نشر التكنولوجيا وتوسيع قاعدة الاستفادة منها عالمياً، وبالتالي فالابتكار ليس ثقافة نخبوية بل هو ثقافة عامة بامتياز ولاسيما لدى شريحة الشباب، ممن يجيدون التعاطي مع التكنولوجيا الحديثة وتطبيقاتها في مختلف المجالات مما يوفر لهم المجال الواسع للابتكار والتطوير في هذه التطبيقات من خلال الاستفادة من دراساتهم العلمية في مجالات التعليم المختلفة.
الابتكار إذن هو تلك العملية التي تطلق العنان للتكنولوجيا وتوجه طاقات الابداع، وما تقوم به الدول والمؤسسات المعنية في هذا المجال هو توفير الأطر المؤسسية التي تسمح أو تهيئ الأجواء وتوفر البيئة المحفزة لعمل هذه الطاقات بكفاءة عالية، أي مأسسة آليات الابتكار وخطواته وتوفير بيئة قادرة على تحويل الأفكار إلى ابداعات حقيقية.
الابتكار أيضاً بات ضمن مؤشرات التنافسية العالمية، وليس كما يعتبره البعض حديث رفاه يقتصر على النخب، ومواقع الدول وترتيبها ضمن هذا المؤشر يتوقف على اعتبارات وعوامل عدة منها الأطر المؤسسية الداعمة لثقافة الابتكار، ومدى توافر المنظومات التشريعية والإدارية والبنى التحتية الداعمة لبيئة الابتكار والمحفزة عليه، بما يكرس دوره بشكل فعال ومستدام في عملية التنمية المستدامة في مختلف الدول، بمعنى أدق هو معيار أو مقياس لكفاءة الخطط والسياسات التي تستهدف تحقيق خطط الدول التنموية ولاسيما في مجال التوجه نحو اقتصاد المعرفة وغير ذلك، وهذا يفسر الزخم العالمي الواسع الذي يحظى به المفهوم في مختلف الدول الساعية للتقدم والتطور من خلال الاستثمار في مواردها البشرية والاهتمام بالموهوبين والمبدعين والمبتكرين من أبنائها المؤهلين علمياً ومعرفياً عبر توفير منصات وحاضنات مؤسسية للابتكار والابداع وتحويل القطاع الحكومي إلى منافس قوي للقطاع الخاص وشريك قادر على لعب الدور المنوط به في الحاضر والمستقبل.
من هنا تبدو أهمية الأنشطة والجهود الرسمية المكثفة لنشر ثقافة الابتكار في مملكة البحرين التي تحتل مكانة مرموقة ضمن سلم الدول المعنية بهذا الثقافة العالمية الواعدة. ومن يتابع قفزات العالم المتلاحقة في مجال الذكاء الاصطناعي ـ على سبيل المثال ـ يدرك سهولة كيف يمكن أن تتحول الأفكار الخيالية إلى واقع في حال توافرت لها البيئة المناسبة، وهذا هو ما تفعله الآن مملكة البحرين عبر توفير المنصات اللازمة لاكتشاف المبدعين والمبتكرين في المجتمع البحريني وتحديداً القطاع الحكومي، المستهدف بأحد أهم هذه المنصات متمثلة في مسابقة الابتكار الحكومي «فكرة» المخصصة لموظفي القطاع الحكومي، والتي أطلقها مؤخراً صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد نائب القائد الأعلى النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء.
الهدف من هذه المسابقة يتمثل ـ كما قال سموه ـ في مواصلة «خطى التطوير والتحديث بما ينعكس بشكل مباشر على تعزيز مخرجات مختلف المبادرات والبرامج التي تتبناها مملكة البحرين في مختلف القطاعات التنموية والخدماتية، وتأكيد دور الطاقات البحرينية في تولي زمام المسؤولية وتحقيق الرؤى المنشودة التي تعود بالنفع والخير لمصلحة الوطن والمواطن ومواصلة البناء على ما تحقق من منجزات إنفاذا للرؤى والتوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المفدى»، وهذا يعني أن مملكة البحرين باتت تعتمد ثقافة الابتكار والابداع كمحرك رئيسي للاقتصاد وآلية من آليات تطوير العمل في القطاع الحكومي الذي يعد قاطرة مهمة للتنمية في المملكة ومختلف دول العالم، باعتباره ركيزة مهمة وحيوية لتنفيذ رؤية البحرين الاقتصادية 2030، وتعزيز قدرات المملكة على صعيد التنافسية والاستدامة اقليمياً وعالمياً.
مثل هذه المسابقات والمنافسات هي الآلية المؤسسية الداعمة للكوادر الوطنية من خلال توفير منصات تسهم في إطلاق طاقات المواطنين والاستفادة من قدراتهم وابداعاتهم في مجالات مختلفة وتسخيرها لمصلحة بناء الوطن وتعزيز قدراته التنافسية على صعيد التنمية المستدامة، فالتطوير لم يعد فقط مسؤولية الحكومات ولا يأتي من رأس الهرم في كل مؤسسة رسمية، بل بات مسؤولية الموظفين الذين يدركون جيداً التحديات ويقدرون على إيجاد الحلول والبدائل والمقترحات العلمية المبتكرة للتعامل معها بكفاءة تنافسية عالية تسهم في تطوير الأداء وتحسين مخرجات العمل وتحقيق الأهداف المنشود في خطط التنمية بالكفاءة المطلوبة.
عندما يتحول الابتكار إلى عمل مؤسسي تتعاظم فرص الاستفادة مما يوفره من إمكانات وفرص، وبما يسهم فيه من تحويل للتحديات إلى فرص وانجازات، وروافد عديدة للتنمية في المملكة، وهي في مجملها مستهدفات للرؤية الاقتصادية الطموحة التي تضع التنافسية في صدارة أولوياتها واهتماماتها، وبما يعود بالخير والرفاهية على شعب البحرين ويوفر مزيدًا من الرخاء للأجيال الحالية والمقبلة.
مسابقة «فكرة» إذاً هي منصة وطنية خلاقة تمثل إضافة نوعية كبيرة ومميزة لخطوات التطوير والتحديث في مملكة البحرين، والاسهام في نشر ثقافة الابتكار وتحويلها إلى أسلوب حياة مستدام ومحرك رئيسي للاقتصاد الوطني والتطوير الحكومي بما يصب في خانة تعزيز مكانة المملكة كإحدى مراكز الابتكار الحيوية اقليمياً ودولياً.