من خلال متابعتي للنقاش الإعلامي حول أحاديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخراً عن الأعباء المالية المترتبة على علاقات الشراكة الاستراتيجية بين بلاده والمملكة العربية السعودية الشقيقة، فإن تصريحات صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي عهد المملكة، التي نشرتها وكالة «بلومبرغ» الأمريكية، قد حققت أهدافها تماماً، وأخرست كل الألسنة في الاعلام المعادي للمملكة الشقيقة، بل كانت هذه التصريحات على قدر المملكة ومكانتها وما يتوقعه الأشقاء العرب والمسلمون جميعاً منها، كقائدة للعالمين العربي والإسلامي، فقد كانت تصريحات متزنة هادئة واعية بمتغيرات اللحظة التاريخية الراهنة، ومدركة تماماً لعمق التحالف التاريخي بين المملكة والولايات المتحدة ومتطلبات هذا التحالف وركائزه وأسسه.
قال ولي العهد السعودي في لقائه مع وكالة «بلومبرغ» الأمريكية إن أمن السعودية ليس مجانياً، بل «إن جميع الأسلحة التي حصلنا عليها من الولايات المتحدة الأميركية قد دفعنا من أجلها، إنها ليست أسلحة مجانية فمنذ أن بدأت العلاقة بين السعودية والولايات المتحدة الأميركية؛ قمنا بشراء كل شيء بالمال. فقبل عامين، كانت لدينا استراتيجية لتحويل معظم تسلحنا إلى دول أخرى، ولكن عندما أصبح ترامب رئيسًا قمنا بتغيير استراتيجيتنا للتسلح مرة أخرى لـ 10 أعوام القادمة لنجعل أكثر من 60% منها مع الولايات المتحدة الأميركية ولهذا السبب خلقنا فرصًا من مبلغ الـ 400 مليار دولار، وفرصًا للتسلح والاستثمار، وفرصًا تجارية أخرى. ولذلك فإن هذا يُعد إنجازًا جيدًا للرئيس ترامب وللسعودية. كما تتضمن تلك الاتفاقيات أيضًا تصنيع جزء من هذه الأسلحة في السعودية، وذلك سيخلق وظائف في أميركا والسعودية، تجارة جيدة وفوائد جيدة لكلا البلدين، كما أنه نمو اقتصادي جيد، بالإضافة إلى أن ذلك سيساعد أمننا». هذه اللغة هي التي يفهمها الرئيس ترامب باعتباره رجل أعمال واقتصاد يدرك جيداً لغة الأرقام والصفقات والمصالح.
نعم قامت المملكة بضخ مبالغ ضخمة في شرايين الاقتصاد الأمريكي وتوفير آلاف الوظائف التي افتخر بها الرئيس ترامب ذاته عقب عودته من زيارته التاريخية للمملكة العربية السعودية، وبالتالي فلا فضل لأحد على أحد في هذه النقطة التي كانت موضع دفاع سياسي رائع من ولي العهد السعودي.
تناولت التصريحات الكاشفة أيضاً نقطة في غاية الأهمية تتعلق بموضوع زيادة المعروض النفطي، حيث تحدث الأمير محمد بن سلمان بشكل في غاية الوضوح قائلاً «في الحقيقة فإن الطلب الذي قدمته أميركا للسعودية والدول الأخرى الأعضاء في أوبك هو التأكد من أنه إذا كان هناك نقص في المعروض من قِبل إيران فإننا سنوفر ذلك وقد حصل ذلك؛ بسبب أن إيران مؤخرًا خفَّضت صادراتها بحوالي 700,000 برميل إن لم أكن مخطئًا. وقد قامت السعودية وشركاؤها من كبرى الدول الأعضاء وغير الأعضاء في أوبك بزيادة صادراتها بحوالي 1.5 مليون برميل يوميًا. لذلك نحن نصدر ما يُقدر ببرميلين إضافيين مقابل أي برميل مفقود من طرف إيران مؤخراً، لذا نحن قمنا بعملنا وأكثر، نحن نعتقد بأن الأسعار المرتفعة لدينا في الشهر الماضي ليست بسبب إيران فهي على الأغلب بسبب الأمور التي تحدث في كندا والمكسيك وليبيا وفنزويلا وغيرها من الدول التي أدت إلى ارتفاع السعر قليلًا ولكن بسبب إيران بالطبع لا؛ وذلك لأنها خفضَت حوالي 700,000 برميل يوميًا ونحن قمنا بتصدير أكثر من 1.5 مليون برميل إضافي يوميًا».
توضيح مهم لموقف المملكة وموقف لا يحتمل التشكيك أو المزايدات من قيادة تعرف جيداً حدود دورها ومسؤولياتها التاريخية تجاه شعبها وأمتها، ومن ثم فإن التعليق على هذه الجزئية من جانب ولي عهد المملكة الشقيقة إنما يعكس موقفاً في غاية الوضوح والفهم الاستراتيجي العميق، والمؤكد أن الولايات المتحدة ستقرأ ما بين السطور جيداً وستدرك أنها باتت أمام قيادة سعودية مختلفة، وأن النقاش والمنطق هما المحركان الأساسيان لإدارة العلاقات السعودية ـ الأمريكية خلال المرحلة الراهنة.
القيادة السعودية الحالية تتعامل مع العالم بفكر ومنهج مختلف، فهي تمتلك شجاعة الحديث في كل شيء ومن دون مواربة، وإذا كانت شريحة من الاعلام المعادي تقتات على الشائعات المغرضة، فقد وجه سموه لهذه الشريحة ضربة قاتلة تماماً، حيث تحدث بشفافية تامة لا مجال فيها للتأويل أو التكهنات عما يثار حول حقلي «الخفجي والوفرة» في المنطقة المحايدة بين السعودية والكويت، وأقر سموه بوجود خلاف او نزاع قديم على السيادة في تلك المنطقة ولم يتم حله حتى الآن، وأن هنا حلولاً في الأفق تلوح لإنتاج نصف مليون برميل من النفط يومياً من هذين الحقلين. وقال سمو ولي العهد السعودي «نعتقد أنه من المستحيل حل مشكلة عمرها 50 عاما في غضون بضعة أسابيع، لذلك نحن نحاول التوصل لاتفاق مع الكويتيين لمواصلة الإنتاج خلال السنوات الخمس أو العشر المقبلة، وفي الوقت نفسه نتفاوض حول قضايا السيادة».
تحدث سموه أيضاً عن معتقلي «الريتز» قائلاً إن هناك ثمانية اشخاص لا يزالون قيد الاعتقال في الفندق رغم أن الاعلام العالمي يشير إلى طي صفحة المعتقلين جميعاً، فهل هناك شفافية أكثر من ذلك؟! والمؤكد أن حديثه قد تناول نقطة توضح تماماً سر الغضب تجاه ممارسات هؤلاء المعتقلين سابقاً، حيث أشار سموه إلى أن «كل من تم إلقاء القبض عليهم، لديهم علاقات مع وكالات من بلدان أخرى، ولديهم اتصالات مع حكومات، ويقومون بتسريب معلومات لمصلحة حكومات أخرى»، وأضاف «نعم إنها اتهامات تتعلق بالتجسس، وكانوا لا يتواصلون مع صحفيين، بل مع مخابرات وأجهزة سرية، ولدينا لبعض منهم أشرطة فيديو يمكننا عرضها لكم»، هنا يبدو الموضوع مختلفاً ولا شك أن على الجميع احترام سيادة القرار السعودي في الحفاظ على أمن المملكة واستقرارها مهما كانت تكلفة ذلك، لاسيما أنه أشار صراحة إلى قطر وإيران اللتين جندتا بعض المعتقلين لمصلحتهما كجزء من عملية استخباراتية ضد المملكة الشقيقة!
حديث ولي العهد السعودي جاء في التوقيت المناسب، وحقق أهدافه تمامًا واخرس كل الالسنة بشفافيته ووضوحه ومكاشفته التي فاقت أي توقعات، ولكنها لم تكن خارج المعهود من القيادة السعودية الجديدة التي تتبنى نهجاً حيوياً فاعلاً في التعاطي مع قضايا الداخل والخارج، لترسخ بالفعل أسسًا سعودية جديدة تقود منطقتها والعالمين العربي والإسلامي.