لا أعتقد أن هناك خلافا كبيرا بين العواصم العربية حول أسس تسوية القضية الفلسطينية، وأهمها المبادرة العربية ومقررات الشرعية الدولية التى تنص على إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدس الشريف، ولكن الخلاف بل التباين الحاد فى وجهات النظر العربية يبدأ حين تطرح الوسائل أو الآليات، وليس أسس أو ثوابت حل الخلاف.
من المعلوم أن تسوية أي خلاف عبر تسوية سياسية يعني أن هناك ضرورة حتمية للحوار سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد جرب العرب سنوات طويلة من الصراع الخطابي والشعارات الرنانة من دون أي جدوى، بل ازدادت أوضاع الفلسطينيين في الدخل سوءًا، ودفعوا أثماناً باهظة للشعارات الخاوية وصراعات الفنادق الفخمة الذي يمارسه الكثير من المحسوبين على القضية، سواء بحق أو بغير حق، وبداع أو من دون داع!
منذ الإعلان عما يسمى بصفقة القرن، والجدل يحتدم بين أطراف كثيرة، سياسية وإعلامية وبحثية، حول أبعاد وتأثيرات ومخاطر وتداعيات هذه "الصفقة" التي لم تظهر أي ملامح حقيقية لها حتى الآن.
المنطق يقول أن دحض أى فكرة يتم غالبا عن طريق طرح فكرة بديلة أكثر فاعلية واقناعاً، والواقع أن العرب لديهم مبادرة تمثل حتى الآن حلاً أكثر عقلانية للقضية الفلسطينية، ويتمثل في مبادرة السلام العربية التي طرحها العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود عام 2002، وتقضى بقيام دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود عام 1967، وضمان عودة اللاجئين وانسحاب إسرائيل من هضبة الجولان السورية مقابل اعتراف وتطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل.
الحقيقة أن هذه المبادرة المهمة لا تزال تنبض بالحياة وتتماشى تماماً مع مقررات الشرعية الدولية، وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، ولاسيما القرارين 242 و338 باعتبارهما الأكثر تماساً مع القضية وتبعاتها، كما تنبع أهميتها من التوافق العربي الجماعي حولها باعتبارها الصيغة الوحيدة التي تلتزم بمبدأ الأرض مقابل السلام، أي قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة عاصمتها القدس الشريف مقابل بناء إطار سلام شامل وتطبيع العلاقات بين العرب وإسرائيل بشكل ينهي اعقد الصراعات المزمنة في منطقتنا.
البعض يرى أن هذه المبادرة تجاوزتها الأحداث وأن التغيرات الجيو استراتيجية والجيوسياسية التي تلاحقت في الشرق الأوسط منذ عام 2011 قد عززت وضع إسرائيل التفاوضي وجعلت من فكرة الأرض مقابل السلام بديلاً تفاوضياً غير مقبول بالنسبة لإسرائيل، لاسيما ما يتعلق بالقدس التي اعترفت بها الولايات المتحدة عاصمة لإسرائيل، فضلاً عن الجولان التي تسعى إسرائيل إلى استصدار قرار من الكونجرس الأمريكي بشأن الاعتراف بتبعيتها الدائمة لإسرائيل!
هذا الطرح يمكن أن يكون عاكساً لواقع الحال من الناحية الفعلية، ولكن من قال إن السلام يمكن ان يقوم على أسس واهية، او أن يصنع في لحظة ضعف تاريخية لأحد الأطراف؟ التاريخ يعلمنا أن السلام الحقيقي هو السلام الدائم الذي يقوم على تسوية عادلة تقنع جميع الأطراف وتسهم في بناء علاقات طبيعية قادرة على التطور وانهاء أي شكل من أشكال استغلال القضية الفلسطينية من قبل تنظيمات الإرهاب والتطرف.
القضية الفلسطينية تحتاج منا، كعرب، إلى نقاشات هادئة ومعمقة وجادة تستوعب معطيات البيئة الدولية الراهنة، وتستشرف المستقبل تفادياً لمزيد من التدهور والخسائر في الجانب الفلسطيني، وهذه ليست دعوة للاعتراف بالأمر الواقع ولكنها دعوة لأخذ متغيرات الواقع وتحولاته بالاعتبار في صناعة قرار استراتيجي عربي يسهم في حلحلة واقعية عادلة للقضية، فالمزيد من الشعارات يعني المزيد من الدماء والمعاناة الفلسطينية، والمزيد من الشعارات يعني المزيد من المزايدات والاتجار بقضية تستحق منا أن نسعى جاهين لرفع المعاناة عن الضفة وغزة.
عندما قام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مؤخراً بزيارة سلطنة عمان، اقام البعض الدنيا ولم يقعدها، من دون أن ننتظر حتى لنسمع أي أفكار أو طروحات جديدة يمكن أن تقدم لمساعدة الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي للتوصل إلى حل عادل للقضية. وعلينا أن نقر بأن أي صيغة مطروحة لن ترى النور بشكل فعلي ما لم تحقق الحد الأدنى من التوافق الفلسطيني ـ العربي.
وفي المقابل، على إسرائيل أن تدرك أيضاً أن أي زيارات أو أي شكل من أشكال التطبيع لن يحظى بالاستمرارية والاعتراف الشعبي العربي ما لم يتحقق السلام الشامل والعادل، وقد علمتنا التجارب منذ توقيع اتفاقية السلام مع الشقيقة مصر أن السلام والتعايش الحقيقي في منطقتنا مرهون بتسوية حقيقة عادلة للقضية الفلسطينية وليس له طريق سوى ذلك.