حسم فضيلة الأمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر رئيس مجلس حكماء المسلمين جدلاً حاداً ثار عبر وسائل التواصل الاجتماعي في مصر الشقيقة مؤخراً حول قرار مجلس التأديب بجامعة الأزهر فصل طالبة بسبب تصرف اعتبره مجلس التأديب الأعلى في الجامعة" لا يتناسب مع اخلاقيات الجامعة والمجتمع وتقاليده"، وجاء تدخل فضيلة شيخ الأزهر ليحسم نار فتنة من الفتن التي يشعلها البعض بين الفينة والأخرى عبر "السوشيال ميديا" التي تحولت إلى ساحة صراع حول كل الأمور من دون أي معايير للخطأ والصواب، ولاسيما في المسائل ذات الصلة بالدين والجوانب القيمية والأخلاقية للمجتمعات العربية والإسلامية.
لا اتناول في هذا المقال قرار مجلس التأديب الأعلى بجامعة الأزهر العريقة، باعتباره قرار إداري استند إلى معايير محددة، لسنا في موضع مناقشتها، ولأن القرار كان يسعى في ظاهره إلى استهداف الردع والزجر أكثر من القضاء على مستقبل الطالبة، واجزم أن مجلس التأديب لو كان اتخذ قراراً أقل من ذلك كان سيتعرض أيضاً لحملة هجوم شرسة من ادعياء التدين ومن نصّبوا انفسهم حماة للعقيدة!
جاء تدخل فضيلة شيخ الأزهر ليدعو مجلس التأديب لأن يضع في اعتباره حداثة سن طالبة الجامعة وأن يراعي مستقبلها قبل أن يفرض عليها عقوبة الفصل النهائي، ولأن يقوم بواجب النصح والإرشاد قبل اللجوء إلى فرض العقوبات، وهذا موقف حكيم يليق بفضيلته ويمثل أبلغ رد على من يشككون في الأزهر وتوجهاته ليل نهار.
الحقيقة أن قضايا مثل هذه هي من نوع القضايا الحداثية التي فرضتها تطورات العالم الافتراضي وتكنولوجيا الاتصالات، وبالتالي فهي قضايا تضع القواعد لما بعدها في التعامل مع مثل هذه الأمور، كي لا يتخذ البعض من مثل هذه القرارات ذريعة لشن الهجوم ضد الدين الإسلامي واتهامه بالتشدد والتطرف.
الأساس في المسألة أنه لا يمكن ترك الأمور من دون معايير وإلا ستعيش المجتمعات حالة من الفوضى والانفلات الأخلاقي، لاسيما ونحن نتحدث عن جامعة هي الأقدم والأعرق في العالم الإسلامي، ولابد لها من قواعد تحفظ مكانتها وهيبتها وترسخ صدقيتها العلمية والدينية، وهذا الأساس يترجم بالتأكيد إلى ضوابط ومعايير تنفذ في مجملها من خلال فهم واسع للسياق المحيط بكل تجاوز أو اختراق لهذه القواعد والأطر الأخلاقية والمعنوية. كما أن ترك الأمور من دون معايير سيحول المجتمعات إلى ساحة للصراعات والفتن في وقت نصّب فيه البعض أنفسهم حماة للدين، فيما نصّب آخرون أنفسهم حماة للحريات ومجددون لعصرهم في الأمور الفقهية والدينية!
الحقيقة أن وسائل الاعلام التي شن بعضها حملات اتهام قاسية ضد جامعة الأزهر هي نفسها التي وجهت الاتهام للفتاة قبل صدور قرار الجامعة بفصلها نهائيا، وتكفي الإشارة فقط إلى أن الواقعة تم تعريفها إعلاميا بـ "فتاة الحضن"، أي أن التشهير بالفتاة قد تم كعقاب قبل أي قرار إداري، للأسف بتبعات وعواقب مجتمعية أقسى وأشد تأثيراً من الناحية النفسية والواقعية على الفتاة من قرار مجلس التأديب، بل إن هذا التشهير الإعلامي الفج ربما لعب دوراً قوياً في الضغط على مجلس التأديب كي يصدر قراراً بهذه الحسم استجابة لغضب مجتمعي يفترض أن الاعلام قد لعب دوراً فيه!
المعنى أن الاعلام قد صاغ الاتهام وروج له حين اختصر القصة في عبارة "فتاة الحضن"، ثم عاد ليتهم مجلس التأديب بالتشدد والقسوة حين أصدر قرار فصلها نهائياً!
حسناً فعل فضيلة شيخ الأزهر، إمام التسامح، بتدخله في الوقت المناسب ليعطي لنا درساً في تنفيذ القواعد والإجراءات بما يعلي مصالح الانسان بالدرجة الأولى، ويحفظ للمجتمع قيمه وأخلاقه في الوقت ذاته، فلا ضرر ولا ضرار، ولا إفراط ولا تفريط، ولا تهوين ولا تهويل,، وهذا هو جوهر الوسطية في ديننا الحنيف كما هو جوهر قيمة التسامح التي ننادي بها جميعاً في هذا العام، الذي بات عاماً للتسامح في دولة الامارات العربية المتحدة.
ومن لا يدرك قيمة تدخل فضيلته عليه أن يتابع ألـ "هاشتاجات" التي راجت وقت الواقعة، واستغل فيها البعض هذه الواقعة العابرة للترويج لقيم غريبة والدعوة لممارسة هذا الفعل في ساحات عامة وفي مختلف الجامعات تحدياً للقيم والأخلاق المجتمعية!
شكراً فضيلة شيخ الأزهر على ترسيخ أحد أهم مبادئ الدين الإسلامي، دين التسامح والوسطية، وإعلاء مصلحة المجتمع وتفادي فتن جديدة تبدو مجتمعاتنا العربية والإسلامية في غنى تام عنها.
والدرس الذي نستخلصه جميعاً من هذه الواقعة العابرة ان تتوقف وسائل الاعلام عن مزاحمة "السوشيال ميديا" والتسابق معها في رفع وتيرة الأزمات والشحن المجتمعي، بل يجب عليها أن تقوم بدورها التنويري الذي يضبط إيقاع المجتمعات في ضوء ما رسخ في الوعي الجمعي من قيم وأخلاقيات مستمدة من الدين والتقاليد والأعراف.