لا أحد يجادل في أهمية سوريا ضمن معادلات الأمن القومي العربي، فهي كانت وستظل رقماً مهماً في هذا الشأن، حتى أن غيابها تسبب في تفاقم معضلات الأمن وفتح الباب أمام تغول بعض القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا وتمددها ورغبتها في قضم جزء حيوي من الأراضي العربية.
وإذا كان الموقف العربي الجماعي تجاه سوريا عقب اندلاع الأزمة عام 2011 قد اُتخذ على عجل وبناء على حسابات استراتيجية كان يراها العرب في معظمهم وقتذاك منطقية ومبررة، فإن مرور السنوات قد كشف عن أن هذا الموقف لم يكن موفقاً في نظر بعض الأطراف العربية، ليس لأن النظام السوري لم يسقط تحت ضغط الصراع والأزمة التي اشتعلت على أرض هذا البلد العربي العريق، وما تسببت فيه من كوارث للشعب والدولة السورية معاً، ولكن لأن النظام الجماعي العربي قد فقد بهذا القرار قناة اتصاله وتواصل ملحة مع النظام السوري وغاب جزء مهم من الكيان العربي عن دائرة التفاعل والاتصال والتواصل، وغاب معه أي دور عربي في مسار الأزمة، التي تُركت تماماً لأطراف إقليمية ودولية! وعلى الجانب الآخر يرى آخرون أن النظام السوري لم يكن يستحق البقاء على مقاعد الجامعة العربية، وأن المعطيات لاتخاذ قرار تجميد أو تعليق عضويته كانت ولا تزال صائبة، وأن الظروف لم تتهيأ بعد لإعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة. ونحجن نثق في أن الطرفين يدركان مكانة سوريا المكان والمكانة والتاريخ وأنهما يستهدفان مصلحتها ولكن كل له نظرته وتقديره للأمور.
المهم أن العرب غابوا طيلة سنوات مضت منذ بداية الصراع، ولم يحضروا في أي من جولات تحديد مستقبل سوريا، لا أثناء ذروة الأزمة، ولا بعد تطهير الأراضي السورية من تنظيم "داعش" الإرهابي وسيطرة النظام على معظم أراضي الدولة، والحاصل الآن أن هناك تباينات في الموقف العربي الجماعي تجاه عودة سوريا للنظام الجماعي العربي الرسمي، متمثلاً في جامعة الدول العربية.
ولكن الموضوعية والحقيقة تقول أن النظام السوري بحاجة إلى العودة للحاضنة العربية رغم كل محاولاته إظهار عكس ذلك، فما ينتظره من تحديات لاسيما ما يتعلق بالوجود الإيراني والأطماع التركية في سوريا يفرض عليه ضرورة الحصول على دعم عربي، فمهما كان ضعف الجامعة العربية، فإنها تستطيع توفير حد ما من الدعم السياسي الذي يحتاجه نظام الأسد لاستعادة سيادة سوريا على كامل أراضيها والتصدي للأطماع الخارجية. وعلى الجانب الآخر فإن العرب بحاجة أيضاً إلى استعادة دور سوريا الدولة والكيان ليس من أجل النظام ولكن من أجل لعب دور فاعل لمصلحة ملايين السوريين في الملاجئ على الحدود وفي مختلف دول العالم، ناهيك عن التصدي للمخطط التوسعي للقوى الإقليمية، التي تسعى لإحداث قطيعة مزمنة بين سوريا وبقية الجسد العربي.
المؤكد أن اتخاذ قرار إبعاد سوريا عن الجامعة العربية قد تم في وقت يدرك الجميع ما اكتنفه من ملابسات وضبابية وارتباك استراتيجي عربي، حتى ان الجامعة حينذاك قررت تعليق عضوية سوريا رغم ان ميثاق الجامعة ذاتها لا ينص على مايفيد هذه الامكانية، إذ لا يوجد في الميثاق سوى بند للطرد أو الفصل بقرار يصدر بإجماع الدول العربية الأعضاء، ولكن امتداد الصراع لأكثر من ثماني سنوات ومقتل أكثر من 400 ألف فضلاً عن نزوح ولجوء أكثر من خمسة ملايين سوري قد وفر دروساً مهمة للغاية للعرب جميعاً، فغياب أي قنوات اتصال فاعلة ومباشرة مع النظام السوري قد أفقد العرب وسيلة مهمة لطرح البدائل والحلول التي تساعد في استعادة سوريا بغض النظر عن النظر إلى ذلك باعتباره "جرعة أوكسجين" للنظام من عدمه، فالأولوية الآن هي للشعب والدولة السورية والمصالح الاستراتيجية العربية على المديين المتوسط والبعيد، فمصلحة العرب تمضي في سباق زمني مع مصالح الطامعين، وندرك جميعاً أن إيران تحاول تثبيت مجال نفوذها الجيواستراتيجي في سوريا من أجل تثبيت موضع قدم لها على البحر المتوسط عبر "حزب الله" اللبناني.
وللموضوعية أيضاً، فإن الجميع يعلم ما ارتكبه النظام السوري من أخطاء جسيمة بحق شعبه، ويعلم الجميع أيضاً الروابط المصيرية التي باتت تربط بين النظام والملالي في إيران، ولكن السياسة دائماً قادرة على إيجاد أدوات وبدائل للتعامل مع مثل هذه المعضلات والظروف المعقدة، فالدبلوماسية لم توجد كي تتعامل مع الظروف والأوضاع العادية في علاقات الدول ببعضها البعض، بل وجدت أساساً لمثل هذه الظروف، التي تمثل تحدياً لأنماط تفكير الأجهزة الدبلوماسية للدول، ومن يقول بأن العلاقة التي أصبحت مصيرية وأبدية بين الأسد ونظام الملالي غير قابلة للتفكك والتحلل، فهو كمن يقبل بتسليم سوريا نفسها لإيران، ويقبل بأن يترك الشعب السوري لمصيره، حيث سيواجه كل مخططات إعادة الهندسة الديموجرافية التي تستعد لتنفيذها ميلشيات الحرس الثوري، بحيث تضمن وجوداً أبدياً لها على الأراضي السورية، من خلال جلب اتباعها من دول مختلفة وتوطينهم في سوريا، والتقارير التي تتحدث عن تنفيذ مخططات توطين الإيرانيين واتباعهم في المدن السورية ليست سوى فيض من غيض سيراه الجميع في المستقبل القريب في حال بقاء الحال على ماهو عليه.
الكرة الآن في ملعب النظام الجماعي العربي: إما بقاء العرب كمتفرجين على بقية المباراة الاستراتيجية في سوريا، أو انقاذ ما يمكن إنقاذه وفق منطق الأولويات والمصالح والحد من الخسائر الاستراتيجية العربية. وسواء كان إبعاد سوريا عن الجامعة العربية خطأ أم قرار صائب، فقد مضى إلى حال سبيله ولكن علينا، كعرب التعامل الآن ببراجماتية وعقلانية شديدة مع توابعه ونتائجه ومع ماهو قادم من الأيام التي تبدو حبلى بالمفاجآت على الصعيد العربي والإقليمي.