تشغل الانتخابات المقبلة للفوز بعضوية المجلس الوطني الاتحادي الكثير من حيز النقاشات التي تجري بين المواطنين هذه الأيام، حيث يسهم العرس الانتخابي في خلق "حالة" مجتمعية جميلة تخفف لهيب أجواء الصيف الحارة، وتوفر مادة خصبة للنقاش حول قضايانا وتحدياتنا الوطنية، بما يسهم في تعميق روح المواطنة ونشر الوعي لدى الأجيال الجديدة وتشجيعها على المشاركة في بناء مستقبل الوطن.
ويلفت انتباهي، شخصيا، بين النقاشات أن الحديث يوحي، أحياناً، وكأننا نتلمس خطى المجالس التشريعية، وكأن تجربة برلمانية ولدت في فبراير عام 1972 لم تعرف بعد طريقها الصحيح، وهذا الأمر غير صحيح بالمرة، ولن استدل هنا بتطور المجلس الوطني الاتحادي في فصوله التشريعية الأخيرة، فلكل من هذه الفصول ما له وما عليه، بل سأعود إلى أسس التجربة وركائزها التي وضعها القائد المؤسس المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه؛ حيث انطلق تجربة المجلس من أساس دستوري قوي، كونها السلطة الاتحادية الرابعة من حيث الترتيب في سلم السلطات الاتحادية الخمس المنصوص عليها في الدستور، وبالتالي فلم تكن المسألة من بدايتها تتعلق بمجلس "شكلي" بل شريك حقيقي في صناعة القرار، والممارسة على أرض الواقع توحي بذلك، فالقائد المؤسس كان يذّكر أعضاء المجلس الوطني الاتحادي بأسس التجربة البرلمانية وأنها ليست حالة طارئة ولا عابرة في الحياة السياسية الإماراتية، بل شهدت مأسسة لواقع قائم، وكان يقول "إننا خضنا التجربة الديمقراطية التي نعيشها في الواقع منذ مئات السنين في ظل مبدأ الشورى"، وأن "الذي نبدأ اليوم ليس جديداً على هذا الوطن، لقد كان أسلافكم يشاركون أسلافنا في الحكم، ويَسْدون المشورة لهم، ولكن الطُرق تختلف، في الماضي، كانت هناك نُظم تختلف عن النُظم التي تسُود عالمنا المعاصر"، ويشير إلى أن "الجلوس والمناقشة مع إخواننا أعضاء المجلس الوطني ليس جديداً علينا إنه من صلب تقاليدنا ومن تراث أجدادنا وآبائنا، لقد كانوا يعرفون الطريقة ذاتها في النقاش وتبادل الرأي، كل ماهناك أننا طورنا الطريقة".
فالقيادة إذاً كانت تعي برؤيتها الاستشرافية دور المجالس التشريعية في بناء الدولة الحديثة، حيث قال، طيب الله ثراه، في حديث صحفي له في يونيو عام 1972 "إننا بدأنا الديمقراطية والعدالة فأنشأنا اول مجلس استشاري حديث في تاريخ البلاد"، بل كان حريصاً على تشجيع أعضاء المجلس على أداء الدور المنوط بهم، واشير هنا إلى خطاب تاريخي للمغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد أمام المجلس الوطني الاتحادي في 19 يوليو 1972، قال فيه للأعضاء: "إنني أطالبكم ان تقولوا رأيكم بصراحة في كافة القضايا التي تعرض عليكم، ولا يهمكم شخص كبير أو صغير لأنكم لا تمثلون أنفسكم، فأنتم تمثلون أمة بأكملها، ومجلسكم هو مجلس أمة، وعليكم أن تبحثوا الأمور التي تحقق الصالح العام دون تراخ، ثم نصحهم في الخطاب ذاته قائلاً "لا يجب أن يتقاعس أي فرد فينا، لأن وطننا يحتاج منا إلى بذل كل جهد والحياة ثروتها العمل، وكل شيء في هذه الدنيا زائل وستبقى اعمالكم هي الخالدة"، وتلك هي أسس ومبادئ المشاركة السياسية الحقيقية، فالأمانة والإخلاص وتحمل المسؤولية ضرورات لعضوية المجالس التشريعية، حيث رسخ القائد المؤسس معادلة العضوية حين حمّل الأعضاء مسؤولية وطنية جسيمة امام الأجيال المقبلة والتاريخ، وحين أكد أن الحقوق يقابلها واجبات والتزامات ومسؤوليات، وصون الحقوق مرهون بتحمل مسؤولية تحقيق الصالح العام لأن عضو المجلس الوطني لا يمثل نفسه بل يمثل أمة بأكملها كما قال ـ طيب الله ثراه ـ وقد نص دستور الدولة على ذلك بالفعل.
هذا هو جوهر عضوية المجلس الوطني الاتحادي، انطلاقاً من وعي وطني بتحمل المسؤولية، والتيقن من أن الشورى لا تستهدف مجرد الجدال واثارة اللغط، ولا النقد الجارح، بل تستهدف تفاعل الآراء والخبرات والنقد الموضوعي البنّاء الملتزم بقيم المجتمع وعاداته، استرشاداً ببوصلة المصلحة العامة، التي تمثل صمام أمان يحدد المسار الصحيح لممارسة نهج الشورى.
ثمة مبادئ راسخة ونحن نتداول فكرة الترشح والفوز وعضوية المجلس الوطني الاتحادي أهمها ضرورة الحفاظ على الروابط الأخوية والسلم الاجتماعي، الذي يقتضي الاحترام والتقدير المتبادل وتفادي الصراعات والأحقاد الشخصية فقاعدة زايد، طيب الله ثراه، هي أنه "من الطبيعي أن تكون هناك خلافات في وجهات النظر، وليس من الطبيعي أن يكون الجميع برأي واحد وموقف واحد وبأسلوب واحد، في التفكير والعمل".
وعندما اطلق صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة ـ حفظه الله ـ برنامج "التمكين" عام 2005، استهدف "تفعيل" دور المجلس" و "تمكينه" ليكون "سلطة مساندة ومرشدة وداعمة للمؤسسة التنفيذية"، بحيث يكون "مجلساً أكبر قدرة وفاعلية والتصاقاً بقضايا الوطن، وهموم المواطنين تترسخ من خلاله قيم المشاركة الحقة، ونهج الشورى من خلال مسار متدرج منتظم"، واضعاً أسس المرحلة وركائزها لتمضي التجربة البرلمانية بشكل مدروس يناسب خصوصيتنا المجتمعية، وبالتالي فالبوصلة هنا واضحة ومحددة ودقيقة أيضاً، ويمكن أن نقيس بموجبها مدى تحقق الأهداف والأدوار، وأن نتعرف على فاعلية الأداء سواء للأعضاء أو للمجلس ككل، من خلال منظومة الأهداف التي رسمتها القيادة الرشيدة، بمعنى: هل كان مجلسنا منذ عام 2006 سلطة مساندة ومرشدة وداعمة للمؤسسة التنفيذية؟ وماهي نسبة تحقق هذا الهدف؟ وماهي التحديات إن وجدت، وكيف نتعامل معها؟ هذا، برأيي المتواضع، هو النقاش الذي يصب في مصلحة تطوير التجربة الانتخابية واثراءها بالأفكار والمقترحات لاسيما ان حصاد الانتخابات المقبلة يمثل نقلة نوعية جديدة في تاريخ تجربتنا البرلمانية بحصول المرأة على 50% من عدد الأعضاء.