تزايد الشعور بالخطر في الآونة الأخيرة بسبب الفشل المتكرر لجولات عدة من المفاوضات المصرية الاثيوبية السودانية بشأن "سد النهضة"، وما يفاقم الإحساس بالخطر أن بعض تنظيمات الإرهاب والدول التي تمولها وترعاها، تتخذ من هذا الموضوع بالغ الحساسية والأهمية ورقة تستغلها أسوأ استغلال في محاولة الإساءة للسياسات المصرية في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي.
الحقيقة أن مصر أعلنت موقفها بشكل صريح ومباشر وواضح على لسان الرئيس السيسي عندما رفضت القبول بالرضوخ للأمر الواقع، كما أكدت على حتمية العمل في الإطار السياسي وبموجب القانون الدولي، وهو موقف متزن يليق بدولة بحجم مصر وتاريخها.
الحقيقة أن الموقف المصري في هذا الشأن هو موقف عقلاني ومسؤول، ويتوافق مع منطق الأمور، فالإعلان عن التمسك بالمسار السياسي لا ينفى بداهة امكانية اللجوء لخيارات أخرى، وبالتالي من الخطأ الاندفاع وراء دعوات الانتهازيين والإرهابيين الذين يريدون استدراج مصر إلى فخ الصدام عسكرياً مع دولة اثيوبيا، في حين أن التخطيط الاستراتيجي السليم يستوجب التفكير في هذه المرحلة بشكل دقيق، وتفادي التهور والحسابات الخاطئة التي قد لا ينتج عنها سوى خسائر فادحة على المديين القريب والبعيد.
اتجهت مصر إلى الاحتكام للمجتمع الدولي والسعي لإشراك طرف رابع في المفاوضات الثلاثية، وقد يكون هذا الطرف هو الولايات المتحدة بما تمتلك من علاقات قوية مع مصر واثيوبيا، باعتبار أن الحل الدبلوماسي هو الضامن الوحيد للوصول إلى تسوية عادلة لحقوق جميع الأطراف المشاركة في مياه النيل، فالحقيقة أن الأطراف الثلاثة للازمة بحاجة ملحّة إلى تحكيم لغة العقل والمنطق والعمل الجاد على بلورة تسوية عادلة، فالاقتصادات الثلاث تمر بمرحلة بالغة الحساسية والحرج وتحتاج إلى ظروف مواتية للخروج من عنق الزجاجة والسير في دروب التنمية والبناء لمصلحة رخاء وازدهار شعوبها. والحقيقة أيضاً أن عامل الوقت يمثل أحد العوامل الضاغطة على أعصاب الجانب المصري بسبب قرب الانتهاء من أعمال بناء السد الاثيوبي وبالتالي بدء التشغيل، وهذا يعني ازمة كبرى في حال عدم التوصل إلى اتفاق متكامل حول الحصص المائية وسنوات ملء السد.
على الخلفية السابقة، يجب أن يعي الطرف الاثيوبي أن مسألة مياه النيل هي قضية حياة أو موت بالنسبة للأشقاء المصريين، وهي قضية مصيرية لا يمكن التفريط فيها، وعندما تستدعي مصر تدخل المجتمع الدولي عبر منصة الأمم المتحدة فإنها لا تريد للأمور أن تصل إلى ما لا تريده أو تسعى إليه، قضية المياه قضية بالغة الخطورة وكل توقعات الاستراتيجيين كانت تتجه إلى أن الحقب المقبلة ستشهد اندلاع حروب حول المياه، وهو ما لا نرضاه للأطراف الثلاث.
التفاوض المثمر يتطلب إرادة سياسية قوية وتنازلات متبادلة ونوايا سليمة، ومن ثم فليس من المنطق التسليم بمبدأ فرض الرأي والسيادة المطلقة في الحلول الخاصة بالأنهار المشتركة، لاسيما ان هناك قانون دولي ينظم مسألة الأنهار المشتركة العابرة للجغرافيا والحدود، علاوة على أن اعتبارات المصالح المشتركة تستلزم التفاهم حول الخلافات وعدم السماح لها بالانزلاق إلى نهايات مسدودة لا فائز فيها ولا مهزوم، بل الكل خاسرون ـ لا قدر الله ـ في حال السماح للأصوات المتشنجة بإدارة أزمة على قدر عال من الحساسية مثل موضوع "سد النهضة".
والحقيقة وبمنتهى الموضوعية نقول ان القيادة المصرية الحالية قد تعاملت مع الأزمة بمنتهى الشفافية وحسن النوايا وإعلاء المصالح المشتركة لشعوب وادي النيل، ولعل إعلان مبادئ الخرطوم لسد النهضة، الذي وقعه قادة الدول الثلاث في مارس عام 2015 والذي ينص في مجمله على مبادئ التعاون والتنمية وبناء الثقة وحسن النوايا، خير شاهد على ذلك، كما أن لدى القيادة المصرية توجه استثنائي نحو فتح صفحة جديدة في علاقات مصر وشعبها مع حاضنته الاستراتيجية الافريقية، وبالتالي لا يمكن للقيادة الاثيوبية التي تمتلك حساً سياسياً واستراتيجياً عالياً أن تفوت هذه الفرصة، أو أن تسمح للمغرضين والمتآمرين باستغلال الأزمة في الوقيعة بين البلدين والشعبين.
لا يجب أن تسمح القيادة الاثيوبية الحالية بأن تصل الأمور بين البلدين إلى النقاش حول أمور مثل "حق الدفاع الشرعي عن النفس" بموجب القانون الدولي كما يطالب البعض، وحسناً قال وزير المياه والري والطاقة الإثيوبي، سلشي بقل، في تصريح صحفي أدلى به، السبت الماضي، في ختام اجتماع ثلاثي بين إثيوبيا ومصر والسودان في الخرطوم بشأن القضية أن "الخبراء من إثيوبيا ومصر والسودان قدموا بعض المقترحات ما يعني أن المفاوضات لم تصل إلى طريق مسدود".
ولكن حديث الوزير الاثيوبي عن وجود هامش تفاوض ثلاثي، لا يستقيم في المقابل مع رفضه في التصريح ذاته الوساطة "من أي جهة" حسبما نشر على لسانه، فلا يعقل أن يستمر التفاوض بين البلدان الثلاث بغية الوصول إلى اتفاق حتى ولو لم يكن هناك تقدم في هذه المفاوضات، خصوصاً أن الطرف الاثيوبي لا يرفض فقط الوساطات بل يرفض مقترح مصر حول إشراك خبراء دوليين للمساعدة في حل الأزمة، التي يمكن أن يسهم طرف رابع في حلحلتها بطرح مخارج وصيغ وسط وبدائل وحلول! ومن المهم أن يدرك الجانب الاثيوبي أن الاستمرار في دفع الأزمة في هذا الاتجاه سيفاقم الأوضاع سخونة والتهابا وتتحول تدريجياً إلى قضية كرامة وطنية بحيث يستحيل معها الاقدام على أي تسويات أو تقديم أي تنازلات لمصلحة أعلى وأهم هي المصلحة المشتركة للشعوب الثلاث، وتصبح الحلول أكثر تعقيداً وصعوبة.
يجب على الأطراف الثلاثة أيضاً إبعاد الاعلام عن الأزمة قليلاً، وتسريع وتيرة التفاوض والقبول بدور طرف رابع من الدول الصديقة أو الكبرى، لأن البديل عن ذلك هو المغامرة والمجازفة بدخول الشعوبيين ودعاة الفتن على خط الأزمة، وهذا هو السيناريو الأخطر الذي لا تحمد عقباه.
اثيوبيا التي نجح رئيس وزراءها في نزع فتيل الأزمة السودانية، لا يمكن أن تقف حجر عثرة في وجه جهود البحث عن تسوية سياسية لقضية مصيرية تتعلق بشعوب وادي النيل، ولا يمكن لقيادة مثل آبي أحمد أن تسمح بخلق ظروف صراع سياسي بين شعوب تتطلع إلى الرخاء والتنمية والازدهار.
كلمة أخيرة نقولها لبعض الأطراف التي تحرض ضد القيادة المصرية: من المعيب أن تستغلوا قضية مصيرية تخص شعب مصر كله في التنفيس عن عدائكم وكراهيتكم للنظام، فالمياه ليست قضية الرئيس السيسي فقط بل قضية مائة مليون مصر، فلا تنفخوا في نار الفتنة التي لعن الله من أيقظها.