شهدت أزمة "سد النهضة" الاثيوبي تطورات عدة لافتة في الآونة الأخيرة، وتستحق من كل مهتم بالشأن العربي تسليط الضوء عليها ومتابعتها لما لهذه الأزمة المعقدة من ارتباط حيوي بالأمن القومي العربي، متمثلاً في أمن الشقيقة مصر، التي يمثل نهر النيل لها شريان حياة لا يمكن الاستغناء عنه، أو التفريط في مياهه؛ وفي مقدمة هذه التطورات يأتي رد الفعل السوداني الذي تحفظ على قرار وزراء الخارجية العرب بشأن دعم موقفي مصر والسودان تجاه سد النهضة، واعتقد أن هناك ضرورة حيوية بل حتمية لحوار مصري
سوداني عاجل ومباشر وصريح حول هذه الأزمة، بدلاً من ترك الأمور لساحات السوشيال ميديا والدعوات والأحاديث غير المسؤولة التي تثير الغضب الشعبي هنا وهناك، فالقيادة الجديدة في السودان يجب أن تدرك أبعاد الخطر الوجودي الذي يهدد مصر، وأن تتصرف، ليس وفق التزامات قومية عروبية فقط، بل انطلاقاً من حسابات المصالح الاستراتيجية البحتة التي تعكس الروابط المصالحية الحتمية والعلاقات التاريخية والاجتماعية بين شعبي مصر والسودان، فالأمر هنا لا يتعلق بموقف سياسي، بل بقضية حياة أو موت بالنسبة لعشرات الملايين من المصريين، والأمور لا يجب أن تؤخذ وفق قاعدة "مع أو ضد" بل انطلاقاً من حسابات هادئة ودقيقة توزن فيها الكلمات بميزان لا تقل حساسيته عن حساسية مواقف الدول الثلاثة المعنية بالأزمة.
والأمر الثاني هو تزايد الحديث عن الحرب وارتفاع نبرة التصعيد الكلامي بين القاهرة وأديس ابابا ليس عبر الاعلام فقط بل من خلال قنوات وإشارات رسمية لا تخطئها عين مراقب، وهذا أمر بالغ الخطورة، ويجب على المجتمع الدولي الانتباه لهذه التطورات وأن يدرك جدية وحساسية الأمر بالنسبة لمصر وقيادتها وشعبها، لاسيما في ظل اقترب شهر يوليو، حيث يتوقع أن تبدأ اثيوبيا ملء السد من دون توقيع اتفاق بهذا الشأن مع الطرفين الآخرين!
والحقيقة اللافتة في هذه الجزئية أن تصريحات الجانب الاثيوبي تستحق وقفة تحليلية، فرئيس الوزراء آبي أحمد، الحاصل على جائزة نوبل للسلام قال مؤخراً إن بلاده "لن تتخلى عن شرفها في أزمة سد النهضة"، مشيراً إلى أن السد يمثل له "قضية شرف وطني" ولن يتخلى عنه أبدا كانت المكاسب التي سيحصل عليها من الخارج، وهذا الأمر يبدو غريباً قياساً على مسار المفاوضات التي دارت من قبل أو تلك التي جرت في واشنطن مؤخراً، إذ لم يتطرق أي طرف مطلقاً إلى فكرة تخلى اثيوبيا عن السد، ولم تطرح هذه الفكرة للأمانة مطلقاً من الجانب المصري، الذي يتحدث دوماً عن مكاسب مشتركة وفق معايير تراعي ظروف ومصالح جميع الأطراف، وهو ما يمثل جوهر التفاوض، وبالتالي يبدو غريباً الإشارة إلى أن طرف ما يطالب بتخلي اثيوبيا عن السد أو أن طرف آخر يعرض عليها مكاسب مقابل التخلي عن المشروع، وهي أمور لم تطرح رسمياً ولا حتى شعبياً، وبحسب علمي لم يتم التطرق إليها مطلقاً في مصر!
نزاعات المياه من الخطورة بحيث تتطلب وعياً سياسياً فائقاً بحساسية المسألة بالنسبة للشعوب المعنية بمثل هذه الصراعات والنزاعات، ولا اعتقد أن القيادة الاثيوبية ينقصها هذا الوعي الاستراتيجي، وبالتالي يجب عليها الانتباه إلى حساسية الأمر وتقدير تداعيات أي خطأ في القرار. وفي المقابل يجب وقف حملات النفخ الاعلامي في نار الفتنة والأحاديث المستفزة عن الحرب على الجانب المصري، فبعض هذه الأحاديث "الفيسبوكية" يتضمن إساءات للشعب الاثيوبي، بما يحرج قيادته ويضعها في موقف صعب وزاوية حرجة بما ينعكس سلباً على المشهد التفاوضي، فشتان بين المزاوجة بين العصا والجزرة أو بين التشدد والمرونة، وبين أجواء التسخين وإلهاب المشاعر الوطنية والقومية لدى الشعوب، حيث يسفر تجاوز الخطوط الرفيعة الفاصلة في مثل هذه المواقف عن أزمات يصعب تجاوزها ويضع قيادتي البلدين في موقف أكثر تعقيداً.
أزمة سد النهضة تشهد تطورات خطيرة متسارعة، والأمر جد ولا يصلح معه جنرالات السوشيال ميديا، ومحترفي حروبها، فمصر دولة اقليمية كبيرة، وقرارتها توزن بدقة شديدة، ولديها من القوة، الناعمة والخشنة، ما يؤهلها للدفاع عن مصالحها والزود عنها، على طاولات التفاوض قبل أي حديث عن ساحات الحروب، وعلى القوى الكبرى أن تتحرك بفاعلية بحثاً عن حلول وتسويات عادلة لأزمة سد النهضة قبل أن تُفاجىء بصراع قد يكون الأخطر والأكثر تأثيراً في القرن الحادي والعشرين.