لا شك أن أكثر ما يزعج السلطان التركي الحالم باستعادة مجد الأجداد، أن تنشط الدبلوماسية السعودية بكل ثقل المملكة، العربي والإسلامي، والإقليمي والدولي، من أجل إعادة الاصطفاف وحشد المواقف العربية بحثاً عن تسوية سياسية تنقذ الشعب والدولة الليبية من قبضة الهيمنة الاستعمارية التركية؛ لذا فإن الجولة المكوكية التي قام بها وزير الخارجية السعودي النشط الأمير فيصل بن فرحان آل سعود في دول الشمال الإفريقي مؤخراً، ولقائه قادة مصر وتونس والجزائر والمملكة المغربية، تثير قلقاً تركياً بالغاً كونها تمثل اختراقاً دبلوماسياً عربياً مهماً ينهي كل محاولات تركيا السابقة لغرس الشقاق، وإثارة الوقيعة بين الأشقاء العرب بما يحقق مصالحها ويفتح الباب أمام تحقيق مشروعها التوسعي البغيض.
انطلقت المملكة العربية السعودية في دبلوماسيتها الراهنة من موقف مبدئي ثابت يقوم على ضرورة إبعاد التدخلات الخارجية عن ليبيا، ودعم إعلان القاهرة الخاص بوقف إطلاق النار والتوجه نحو المفاوضات والحوار بين الأطراف الليبية المتصارعة، وهو موقف حيوي تتطلبه الأوضاع المتأزمة في ليبيا، باعتبار أن توحيد مواقف دول الجوار الليبي وحشد الدعم العربي للحل السياسي في ليبيا سينهي مغامرة السلطان التركي في ليبيا، ويسهم في عزل موقف حلفائه من حكومة السراج التي لا يمكن لها التشكيك في نوايا هذا الموقف العربي الجماعي.
المغزى هنا أن أردوغان وحاشيته ظلوا يراهنون لفترة طويلة على انقسام مواقف دول الشمال الإفريقي حيال الأوضاع في ليبيا، وظل يوظف التباين في المواقف والآراء والاتجاهات العربية حيال الأزمة الليبية لمصلحته، وهذه للحقيقة كانت ثغرة سياسية عربية كبيرة نفذت منها تركيا إلى العمق الليبي، وسعت إلى تكريس هذا الوجود عسكرياً وشرعنته سياسياً عبر اتفاقات غير قانونية مع حكومة السراج التي لم يعد لها وجود شرعي فعلي سوى من خلال بعض المواقف والتصريحات الأجنبية التي لا تزال ترى فيها ممثلاً شرعياً للشعب الليبي! ومن المعروف أن غياب المشروع العربي الجماعي في هذه المرحلة التاريخية قد فتح الباب واسعاً أمام مشروعات إقليمية أخرى تسعى لقضم أراض عربية مستغلة حالة الإرباك وتآكل الدولة الوطنية وضعف سيادتها على أراضيها في حالات مثل سوريا واليمن وليبيا.
وما تضطلع به الدبلوماسية السعودية في الوقت الراهن هو موقف تاريخي يحسب للقيادة السعودية الحالية، التي تعمل على لم الشمل وتوحيد الصف العربي، وتوظف في ذلك مكانة المملكة وثقلها الإستراتيجي وعلاقاتها التاريخية الوطيدة مع الأطراف والعواصم العربية كافة، لذا فإن معركة «تحصين النظام الإقليمي العربي» كما أسماها د. أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية بدولة الإمارات، هي بمنزلة إعلان فعلي عن عودة المحور السعودي - المصري المدعوم بقوة من القيادة الإماراتية، إلى ممارسة نشاطه ودوره الفاعل في التصدي لمشروعات الهيمنة الإقليمية في الدول العربية.
ومن ثم فإن نشاط الدبلوماسية السعودية في هذا التوقيت الحساس يمثل خطوة مهمة لاستعادة زمام المبادرة لمصلحة العرب والإعلان عن وقف هذه الاستباحة الإقليمية غير المسبوقة للأراضي والدول والشعوب العربية، وهو أيضاً نشاط سعودي مؤثر يكتسب أهميته من أهمية المملكة وتأثيرها ومكانتها وثقلها الإستراتيجي إقليمياً ودولياً، ومن هنا يأتي تأكيد الرياض على أن «أمن مصر جزء لا يتجزأ من أمن السعودية والأمة العربية بأكملها»، وكذلك وقوف المملكة «إلى جانب مصر في حقها في الدفاع عن حدودها وشعبها من نزعات التطرف والمليشيات الإرهابية وداعميها في المنطقة»، فهي مواقف لا تحتمل اللبس ولا الجدال وتؤكد أن استباحة الساحة العربية خلال السنوات الفائتة آن لها أن تنتهي، فمملكة العزم والحزم التي قادت جهود التصدي للتغول الإيراني في ساحة اليمن العريق، قادرة حتماً على مواصلة جهودها في التصدي سياسياً للمشروع التركي الذي يسعى لقضم جزء من أراضي سوريا والسيطرة على ثروات وموارد الشعب الليبي.
وفي ظل ما أحدثه التحرك الدبلوماسي السعودي في الساحة العربية الشمال إفريقية من إرباك لتركيا، يمكن، برأيي، فهم محاولات خلط الأوراق التي تسعى أنقرة لنشرها في الآونة الأخيرة، ومنها ادعاءات الإعلام الرسمي التركي بأن مصر تنشر عناصر من قواتها في ريفي حلب الغربي وإدلب الجنوبي بالتنسيق مع الحرس الثوري الإيراني! وكذلك الادعاء بأن الجنود المصريين يتحركون إلى جانب «المجموعات الإرهابية» التابعة لإيران وبالتنسيق معها، بحسب ما أوردته وكالة الأناضول الرسمية التركية! وهي محاولة مكشوفة ومفضوحة للوقيعة بين القاهرة والرياض من خلال الادعاء بأن مصر التي تعاني ويلات الإرهاب وتنظيماته، تعمل جنباً إلى جنب مع ميلشيا إيرانية على الأراضي السورية، وهي نقطة كاشفة للكذب البواح والسموم التي يبثها الإعلام التركي الإخواني؛ لأن أي مبتدىء في عالم السياسة يدرك تماماً أن هذه «الوصفة» لا تستقيم مع مواقف القاهرة ولا اتجاهات سياستها ولا تحالفاتها الإقليمية والدولية في المرحلة الراهنة. فبعيداً عن الضوابط الدستورية والقانونية والسياسية لإرسال مصر قواتها للخارج، يجوز لأي عاقل أن يتساءل: كيف لمصر أن تغامر بفقدان حلفائها مقابل إرسال 150 جنديًا فقط لمساندة سوريا؟! وماذا يفعل هذا العدد الضئيل في مواجهة جحافل تنظيمات الإرهاب التي تساندها تركيا على الأراضي السورية؟
منطوق الخبر/ الشائعة، تركي المنشأ، غير قابل للتصديق ولم يكن يحتاج لنفي مصري رسمي، كونه ضد أي أبسط قواعد التفكير الإستراتيجي، ولا يفسره سوى أن السعي لإفساد العلاقات المصرية - السعودية يبقى هدفاً حيوياً لقوى الهيمنة الإقليمية، فمصر دولة عريقة لا تحركها الانفعالات الوقتية ولا ردود الأفعال والمواقف اللحظية، والسعودية تقدّر دور الشقيقة مصر ومكانتها وتسعى لجمع الشمل العربي في لحظة تاريخية فارقة، وذلك لن يرضى بالطبع أصحاب المطامع ومخططات الهيمنة الإقليمية.