منذ الاعلان عن التوصل لاتفاق بين دولة الامارات واسرائيل حول العلاقات الثنائية، حرصتٌ طيلة الأيام القليلة الماضية على متابعة ردود الأفعال الاقليمية والدولية على هذه الخطوة التاريخية، التي تحرك المياه الراكدة في بيئة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي. والحقيقة أنه لم تفاجئني أياً من ردود الأفعال التي صدرت ـ حتى الآن ـ لاسيما من "ملالي" إيران و"السلطان" التركي وحاشيته، وحتى المسؤولين والتنظيمات الفلسطينية، فبينهم جميعاً مشتركات لا ينكرها أحد، سواء على مستوى مايعرف ـ زوراً وبهتاناً ـ بمحور المقاومة، أو على مستوى مشاعر الحقد التي يكنونها للإمارات، وكراهية دورها الفاعل والمؤثر اقليمياً ودولياً.
دعونا قبل أن نعلق على بعض ردود الأفعال التي خرج البعض منها عن أعراف وتقاليد العلاقات بين الدول، وانزلق إلى سياقات مرفوضة تنطلق من الرغبة في ممارسة الوصاية على دول ذات سيادة، خضوعاً لأهواء وأفكار لا وجود لها سوى في عقل الناطقين بها! أن نتساءل: لماذا يعتقد بعض الأشاوس من العرب والفلسطينيين ومناصريهم وداعميهم من الأتراك والايرانيين أن الامارات تكسر المحرمات باقامة علاقات ثنائية مع إسرائيل؟! أنسيتم أن هناك معاهدات واتفاقات سلام سابقة بين دول عربية واسرائيل قائمة منذ عشرات السنين؟ أنسيتم أيضاً تلك العبارة الأثيرة "السلام خيار استراتيجي" عربي، التي لا يخلو منها بيان رسمي صادر عن أي قمم واجتماعات عربية! وهل معنى أن الامارات لم تكن طرفاً مباشراً في الصراع العربي الاسرائيلي أنها ليست معنية بمراعاة مصالحها الاستراتيجية في ظل معطيات الواقع الجيواستراتيجي الاقليمي؟ ولماذا تنكرون أن "الجزرة" التي تمنحها الامارات لإسرائيل يمكن أن تكف يد الأخيرة عن ابتلاع بقية الأراضي الفلسطينية قسراً، ولو بشكل مؤقت كما تقولون، فمجرد تجميد أو وقف قرار ضم الأراضي الفلسطينية يفترض أن يمنح الطرف الفلسطيني فرصة لا لتقاط الأنفاس والبحث عن مخرج للحل بدلاً من وضع المتاريس واغلاق جميع النوافذ وغير ذلك من ردود الأفعال الانسحابية التي اختبرتها القضية سنوات طويلة ولم تحقق شيئاً سوى المزيد من الخيبات والاخفاقات!
نعم أيها السادة، الامارات ترى في خطوتها هذه اختراقاً وتفكيراً خارج الصندوق الذي يريد البعض حصر الجميع بداخله، فالامارات دولة فعل وانجاز وليس لديها وقتاً لتهدر السنوات تلو السنوات في شعارات واهية وضجيج ظل يملىء الفضاء العربي طيلة السنوات والعقود الماضية من دون مردود يذكر، لا على القضية ولا على أهلها وأصحابها الحقيقيين، الذين يعانون في المخيمات والملاجىء وأرض الشتات، بينما من يزعم الدفاع عنهم من بني جلدتهم ينعم بحياة مخملية لا علاقة له بما يرفعه من شعارات ولا من يتحدث باسمهم ويزعم الدفاع عنهم!
سيبقى انحياز الامارات دائماً للقضية الفلسطينية، ولأصحابها الحقيقيين، الشعب الفلسطيني، ولكنها لم تزعم مطلقاً أنها تتحدث باسم الفلسطينيين ولا تنوب عن ممثليهم في أي شأن يخص مستقبلهم ويحدد مصيرهم، فالموقف الاماراتي واضح كل الوضوح، ويقتصر على تهيئة الأجواء وتوفير الفرص والاسهام في توفير الفرص لاستئناف جهود السلام والمفاوضات بين طرفي الصراع الأساسيين، الفلسطينيين والاسرائيليين.
والحقيقة أن تجاوزات البعض اللفظية ووصف الخطوة الاماراتية من قبل البعض بأنها "طعنة في الظهر"، أو"عمل يرقى إلى مستوى الخيانة"، هو استمرار لنهج ديماجوجي فاشل في معالجة قضية مصيرية تخص شعباً بأكمله، وعلى من يصف أي تحرك ايجابي خارج مربع تفكيره وتصوراته أن يأتي بالبديل، لا أن يكتفي بالصراخ والضجيج الاعلامي تاركاً شعبه يعاني ويواجه الأزمات والحصار ومختلف مظاهر المعاناة الانسانية.
الامارات تعرف جيداً حدود مسؤولياتها القومية وما يتطلبه دورها الخليجي والعربي، ولا تزعم أنها تقود العالم العربي ولا تنوب عن الآخرين في تحديد مصيرهم؛ فبيانات الامارات الرسمية وتصريحات مسؤوليها واضحة كل الوضوح، وحين تمارس شؤون سيادتها على شأن من شؤونها الخارجية وتدير علاقاتها مع الدول وفق ما تراه ملائماً لمصالحها الاستراتيجية ويمكن أن تتوافر فيه فرصاً ايجابية لآخرين، فلا تتردد في أن تقدم على هكذا خطوة حتى لو كانت على غير هوى البعض، ولذا فقد أعلنت بكل شفافية منذ اللحظة الأولى أن الاتفاق كان مطلوباً لانقاذ حل الدولتين الذي كان ميتاً أكلينيكياً بفعل قرار اسرائيل ضم الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبالتالي لم يكن هناك مخرجاً فعلياً بعد إغلاق كافة الأبواب سوى تحرك يخترق الجمود ويلقي بحجر في المياه الراكدة. لذا اتخذت الامارات قرارها وطالبت الفلسطينيين بالاستفادة من فرصة برزت إثر إزالة قضية الضم من على الطاولة ولو بشكل مؤقت، و"شراء الوقت" الذي "لن يستمر طويلاً" كما قالها د. أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية، فالأمور إذن واضحة لا لبس فيها ولا خداع للذات ولا للآخرين، ولكن المعضلة تكمن في افتقار البعض إلى الرؤية الاستراتيجية الواعية وادمان الخطاب الديماجوجي.
كثيرة هي الفرص التي تُهدر في عالمنا العربي بسبب غياب الرؤى والافتقار إلى إرادة اتخاذ القرار الصائب حتى وإن استدعى غضب أصحاب المصالح والمتاجرين بآلام الشعوب، ولكن الامارات التي اعتادت أن تمضي للأمام وتواجه أعتى التحديات وتتغلب عليها، حتى صارت نموذجاً يرنو معظم الشباب العربي للعيش فيه، تدرك أن عالمنا العربي لم يعد يمتلك رفاهية هدر الوقت في الشعارات والكلمات الرنانة، فالأزمات والصراعات والكوارث التي تحاصر الكثير من عشرات الملايين من العرب وتهدد مستقبلهم، تتطلب رؤى جديدة وتفكيراً واقعياً خال من الشعارات الخاوية والمزايدات الفارغة.