قبل سنوات مضت، أهدر العرب فترات طويلة من الجدال والنقاش حول أيهما أخطر: إيران أم إسرائيل؟ والآن يأتي الدور على نقاش مماثل ولكن حول إيران وتركيا وأيهما أخطر على العرب، وقد لفت نظري هذا النقاش لسببين أساسيين أولهما أنه نقاش عقيم لن يثمر عن نتيجة ايجابية تقودنا ـ كعرب ـ خطوة واحدة إلى الأمام، وثانيهما أن البعض يطرح وجهة نظر "خبيثة" في تبرير فكرته القائلة بأن إيران أقل خطورة على العرب من تركيا معتبرًا أن خطر الأولى يقتصر على منطقة الخليج العربي، بينما يتعدي خطر الثانية إلى ليبيا وسوريا!
وأعتقد أن من العبث مناقشة "ترتيب" خطر الدولتين اللتين تمتلكان مشروعين توسعين أحدهما يرتدي عباءة طائفية، تتباهي باحتلال أربع عواصم عربية، والآخر يرتدي وجهًا استعماريًا خبيثًا يزعم أن له حقوقًا تاريخية في بعض دولنا العربية!
الواقع يشير إلى أن الخطر واضح في الحالتين ومستواه يتصاعد، والقوتان الطامعتان تتحركان بشكل سافر نحو تحقيق أهداف مشروعهما التوسعي على حساب الأمن القومي العربي وسيادة دول عربية عدة منها العراق وسوريا وليبيا واليمن ولبنان، ناهيك عن التدخلات في شؤون دول عربية أخرى، من دون أدنى اعتبار أو حساب لردات فعل عربية محتملة ربما لأنهما يدركان مسبقًا صعوبة بناء توافق عربي في هذه المرحلة للتصدي لخطر أي منهما، أو كليهما معًا، ناهيك عن الامكانيات والموارد والامكانيات والقدرات المطلوبة لتحقيق ذلك!
ربما تكون تركيا الأخطر والأكثر انتشارًا على الصعيد الجيواستراتيجي، بفعل تدخلاتها في الشمال والغرب والجنوب العربي، فضلًا عن حدتها وشراستها في الحديث عن الحنين للحقبة الاستعمارية والحلم باستعادة أمجادها الامبراطورية، ولكن ملالي إيران كذلك يحركهم وازع طائفي ورغبة دفينة في الانتقام من هزائم تاريخية على يد العرب، فضلًا عن الاستعلاء القومي والعنصري الذي ينضح به الخطاب السياسي للكثير من قادة ومسؤولي نظام الملالي تجاه جيرانهم الخليجيين.
ولاشك أن مثل هذه النقاشات تثير ملاحظات عدة منها أن الأمن القومي العربي بات محاصرا من جانب قوى الهيمنة الاقليمية الجديدة، التي ترى في اللحظة التاريخية الحالية فرصة ثمينة للانقضاض على العرب وقضم أجزاء من أراضيهم، أو على الأقل تأجيل عودتهم لاستئناف دورهم الطبيعي في معادلات القوى الاقليمية سنوات طويلة. ومن هذه الملاحظات أيضًا أن السبب في هذه المعضلة التي تواجه النظام الاقليمي العربي، أن هذا النظام غائب أو مُغيب أو مجمد، أو في أحسن الأحوال يعاني التهميش والاقصاء بسبب حالة التشرذم والانهيار غير المسبوقة منذ فوضى عام 2011 وما أفرزته من عواقب وخيمة على العديد من أعمدة الخيمة العربية من اضطرابات وحروب وأزمات داخلية دفعت بعض الدول العربية الرئيسية للانكفاء على الذات لمعالجة الأزمات والمشكلات والمعضلات الداخلية التي تعاني منها.
الواضح أن الحديث عن عودة قريبة أو وشيكة لأي دور أو تحرك جماعي عربي ـ فاعل أو غير فاعل ـ يعتبر ضربًا من الخيال والأوهام، لذا فإن المسؤولية قد وقعت ـ ولا تزال ـ على كاهل الثلاثي العربي الفاعل (المملكة العربية السعودية ودولة الامارات وجمهورية مصر العربية) في السنوات الأخيرة، وهذا ما يفسر اهتمام هذه الدول بإطفاء الحرائق في مناطق الأزمات العربية، ولذا فإن المسؤوليات الملقاة على كاهل "الثلاثي" كبيرة وتتطلب من بقية الدول العربية الانتباه إلى خطورة ما يحدث من حولنا، وتقديم الدعم والمساندة من أجل التصدي للأخطار والتهديدات الناجمة عن قوى الهيمنة الاقليمية الجديدة، وتفادي الاستغراق في سجالات عبثية حول أولويات مصادر الخطر.
ورغم أن العلاقات والتنسيق بين طهران وأنقرة واضح في تحركاتهما نحو العالم العربي، حيث يتفاديان الصدام ويحرصان على ابقاء "الخطوط الساخنة" بينهما في حالة استنفار دائم لتفادي الأخطاء وسوء التقديرات والحسابات الميدانية، فإن جحافل الجيوش الالكترونية التابعة لكل منهما تعمل بشكل حثيث على صرف الأنظار عن هذا الطرف أو ذاك، فنجد على ـ سبيل المثال ـ الاعلام الموالي لتنظيم "الإخوان المسلمين"الارهابي، والممول من تركيا يحرص على تفنيد وإضعاف وتفكيك حجج الخطر التركي ويروج للمزاعم القائلة بدفاع تركيا عن الاسلام والمسلمين والعرب وغير ذلك من تخرصات، بينما يستغرق اللوبي الاعلامي الموالي لإيران في إبراز صورة الملالي باعتبارهم حائط الصد الأمامي في مواجهة جحافل الامبريالية التي تستهدف الشعوب الاسلامية!
الحقيقة أن إيران وتركيا تمثلان خطرًا على الأمن القومي العربي، بغض النظر عن اتفاق الآراء أو اختلافها حول مستويات الخطورة ومصادر التهديد وأدواته وتكتيكاته، فكلاهما يمتلك مشروعًا معاديًا للأمة والشعوب العربية، وكلاهما يحتل أرضًا عربية ويطمع في قضم المزيد منها، وكلاهما تحركه أحقاد وعداودات وثأرات قديمة. وإذا كنا نؤمن حقًا بأن الأمن القومي العربي كل لا يتجزأ وأن أمن أي دولة عربية هي جزء لا يتجزأ من هذا الكل، فلا معنى لأي نقاش عبثي حول استهداف هذا الجزء أو ذلك من دولنا العربية بغض النظر عن موقعها الجغرافي.