تابع العالم أجمع خلال الآونة الأخيرة ماحدث في قمة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، التي عقدت مؤخراً في مدينة العلا بالمملكة العربية السعودية الشقيقة، حيث صدر "اتفاق العلا" معلناً عن طي صفحة الخلاف بين "الرباعي" العربي وقطر، مادفع الكثير من المحللين والخبراء لإطلاق الأحكام والسعي لإجراء ما يشبه "جردة الحساب" للرابحين والخاسرين في سنوات المقاطعة الأربع الماضية، بينما اتجه آخرون إلى البحث في دوافع هذه الخطوة وتفسير أسبابها.
الواقع والتاريخ يقولان أنه لا خلاف دائم في العلاقات الدولية، فكل خلاف يعقبه صلح واتفاق وتفاهمات، وليس هناك أصعب من الحروب والصراعات العالمية الكبرى التي انتهت جميعها بالجلوس على مائدة التفاوض والتوافق على صيغ مقبول للجميع كي تمضي مصالح الدول والشعوب في مساراتها المتوقعة، وبالتالي يجب علينا جميعاً التسليم بأن الخلاف بين دول المقاطعة الأربع وقطر كان سينتهي يوما ما، لاسيما أن أسبابه يمكن التعاطي معها عبر دروب السياسة والمرونة الدبلوماسية، وأن هناك قواسم وروابط مشتركة عديدة كانت تجعل المصالحة واردة شرط توافر ظروف ومتطلبات معينة.
والحقيقة أن الترحيب الاقليمي والدولي الذي قوبل به اتفاق العلا يعكس وجود رغبة لدى الجميع في طي صفحة الخلاف والحفاظ على وحدة دول مجلس التعاون والمضي للأمام، لأن أي خلاف بين دول اقليمية هو بالأخير مصدر ازعاج وعرقلة لمصالح أطراف أخرى، وهناك بالمقابل مستفيدون منه كما كان الحال تماماً في هذا الخلاف الذي سعت قوى الهيمنة الاقليمية ـ مثل تركيا وإيران ـ لتغذيته ووإطالة أمده بل واستدامته!
ما يهم الجميع الآن أن هناك صفحة طويت، وأن هناك "انطلاقة جديدة لمجلس التعاون نصون فيها البيت الخليجي من المهددات الخارجية" كما وعد عادل الجبير وزير الدولة للشؤون الخارجية بالمملكة العربية السعودية، وقد أوضح معالي أنور قرقاش وزير الدولة الاماراتي للشؤون الخارجية في حديث متلفز له مؤخراً نقاطاً مهمة تبدو مثار تساؤل لدى الكثيرين مثل المطالب التي تضمنها إعلان مقاطعة الرباعي العربي لقطر، حيث قال إنها "كانت تُعتبر الحدّ الأقصى للموقف التفاوضي في ذلك الوقت"، مُعربًا عن رضاه بما تم التوصل إليه حتى الآن، وهذا معناه بالنسبة لنا ـ كمراقبين ـ أن المسألة لا تتعلق بتحقق عدد مطالب معين بقدر ما يتعلق بحدوث تطورات وتغيرات في المواقف فمن الثابت أن التفاوض والوساطات حول هكذا خلافات متشبعة ومتراكمة ومتعددة الأطراف، ليس هيناً، والمطالب أساساً تقليد معروف يعلن كسقف يمكن التفاوض حوله ويخضع لشروط وبيئة التفاوض وظروفه وأولويات كل طرف وهامش المناورة المتاح لدى المتفاوضين والوسطاء وشروط أخرى عديدة. ومن البديهي أن مياهاً كثيرة جرت في قنوات الوساطة التي لا يُعلن في الأغلب عن كواليسها وأسرارها وما تتضمنته من اتفاقات وتفاهمات إعلاء لأهمية التصالح مقارنة بأي اعتبارات أخرى، فالتجارب تؤكد أن الحفاظ على السرية يضمن نجاح الوساطات وفاعليتها، ولاسيما في ظل هذا الملف الذي يتسم بحساسيات خاصة بحكم انتقاله إلى ساحات الاعلام والسوشيال ميديا، أو بحكم حساسية العلاقة وخصوصيتها بين طرفي هذا الخلاف، فضلاً عن وجود تجارب وتراكمات سابقة تخيم على هذه العلاقات وتتطلب من الجميع حكمة وهدوء وقدراً مناسباً من الوقت.
تصريحات معالي أنور قرقاش أشارت إلى نقطة مهمة للغاية، وهي "ما وصلنا إليه اليوم هو الخطوط العريضة التي تحكم بشكل أساسي العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي، وفي حالة مصر عضو في جامعة الدول العربية"، وهذا هو أحد أساسيات تذويب الجليد وانهاء الخلاف على أساس موضوعي، فالأمر لم يكن يحتاج إلى استجابة للشروط بقدر ما يحتاج إلى اعادة تأسيس العلاقات وفق أطر واضحة يتم الاتفاق عليها، وإلا فإن بعض الممارسات قد تختفي بموجب اتفاق ويظهر غيرها وهكذا، والحل في وجود أرضية راسخة وواضحة يتوافق حولها الجميع بغض النظر عن الممارسات والعوارض رغم الأهمية الفائقة للتخلص من الممارسات والسلوكيات المسببة للخلاف كمخرج لإزالة أسبابه وانهائها تماماً.
اعتقد أن ما يهم الجميع الآن هو البناء على ماتم والنظر للمستقبل، فلا خاسرون في أي اتفاق يوحد صف دول وشعوب مجلس التعاون، بل الكل رابحون، وهذه هي النتيجة الأهم بغض النظر عن المقدمات والظروف وما وراء الكواليس، فوحدة الصف في مواجهة التهديدات الخارجية ووقف أجواء توظيف الأزمة لمصلحة أطراف اقليمية بعينها هو مكسب استراتيجي كبير للمنطقة وأمنها واستقرارها بشكل عام.
وفي ضوء ماسبق وماهو معلن حتى الآن، ليس أمامنا، كمراقبين وباحثين، سوى الترحيب بما تم ودعم هذه الخطوة باعتبارها مصلحة خليجية وعربية مشتركة، وعلينا أن نثق في حكمة قادتنا وحرصهم على مصالح دولنا وشعوبنا، فكل انهاء لخلاف عربي ـ عربي هو خطوة للأمام ولا يصب في مصلحة المتربصين بدولنا وشعوبنا، وما يهمنا ليس بنود الاتفاق أو تنفيذ الشروط بل حدوث تغيرات وسلوكيات قطرية حقيقية على أرض الواقع تعكس رغبة صادقة وجادة في الاستفادة من دروس الماضي القريب والعمل على تصفية أسباب هذا الخلاف وطي صفحته تماماً.