جاء التفجير الارهابي الآثم الذي وقع في ساحة الطيران بوسط بغداد مؤخراً ليؤكد للعالم أن الحرب ضد الارهاب لا تزال قائمة ولم تضع أوزارها، فهذا التفجير الانتحاري لم يستهدف تقويض أمن العراق والعراقيون فقط، بل استهدف أيضاً تذكير العالم بأن التنظيمات الارهابية لا تزال خطراً يستحق البقاء في دائرة الاهتمام رغم كل انشغالات المجتمع الدولي بمكافحة وباء "كورونا" وما تبعه من خسائر بشرية وآثار اقتصادية مدمرة على الكثير من دول العالم.
إحدى الحقائق التي أنتجتها الحرب ضد الارهاب أن الصراع مع هذه الظاهرة البغيضة هو صراع ممتد، يراوح بين شد وجذب، وأن بقاء البيئات الحاضنة والمحفزة للارهاب والارهابيين في بعض الدول تُبقي هذه الأنشطة الآثمة على قيد الحياة وتمدها بالأوكسجين اللازم لاستمرارها، ولو بشكل أقل وبقدرات عملياتية محدودة لمجرد اثباث القدرة على البقاء.
من الوارد في ظل تشابك وتعقيد البيئة الأمنية العراقية أن تحدث "خروقات" كما وصفها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، الذي تشير تصريحاته إلى أنه يدرك جيداً الثغرات التي تسمح بتمرير مثل هذه الخروقات، ما يعني أنه سيقوم بالتعامل الجاد مع هذه الثغرات والسيطرة عليها لتحقيق الأمن والاستقرار في البلاد، رغم أن الأمر ليس بالسهولة التي قد يتخليها البعض في ضوء تشابك الأطراف والعلاقات وتعقد التحالفات والمصالح على الساحة العراقية.
والحقيقة أنه يجب الاعتراف بأن العراق يحقق تقدماً ملحوظاً في الصراع ضد الارهاب وهزيمته واستئصال جذوره، والتفجيرين الانتحاريين الأخيرين ليسا سوى عملية قذرة يمكن الحيلولة دون تكرارها رغم خسائرهما البشرية الكبيرة، ومن يشكك في ذلك عليه أن يتذكر أن تنظيم "داعش" الذي تبنى التفجيرين كان يسيطر على مساحة شاسعة من أراضي هذا البلد العربي الكبير، في إطار ما كان يسمى بـ"دولة الخلافة" المزعومة، والتي كانت تسيطر على نحو 88 ألف كيلو متر مربع في منطقة تقع بين شرق العراق وغبر سوريا، ويقطنها نحو ثمانية ملايين شخص، ومن ثم ليس مفاجئاً أن ينفذ هذا التنظي الارهابي أو غيره مثل هذه العمليات الاجرامية في ظل وجود نحو عشرة آلاف من أعضائه ـ بحسب تقديرات الأمم المتحدة ـ ما زالوا ينشطون في كل من سوريا والعراق، ويمثلون مصدر خطر داهم حيث عادوا إلى مخططاتهم البدائية القائمة على محاولة نشر الذعر وتعطيل مظاهر الحياة الطبيعية والادعاء بقدرة التنظيم على البقاء في دائرة الضوء باعتباره مصدراً للخطر والتهديد.
ورغم تعدد الرؤى والتحليلات والتفسيرات المرتبطة بهذين التفجيرين الآثمين والجهة التي تقف ورائهما سواء كانت "داعش" أو أطراف أخرى، فإن الضحية في جميع الأحوال هو الشعب العراقي الذي يعاني جراء الصراعات الطائفية والتدخلات الاقليمية وما تنتجه هذه البيئة المعقدة من تداخلات بين ماهو أمني وماهو سياسي، فضلاً عن احتمالية تشارك المصالح بين مختلف القوى التآمرية التي تسعى للنيل من العراق والعراقيين في إطار تحالفات دموية بغيضة.
الحقيقة أنه ليس مهماً من نفذ هاتين الجريمتين الآثمتين، اللتان أعلن تنظيم "داعش" الارهابي مسؤوليته عنهما، فالأهم هو هدف هذه التفجيرات وتوقيتها، لأن الأمر لا يرتبط بمجرد رسالة لاثبات وجود هذا التنظيم الاجرامي، بل إن الهدف الأكبر هو محاولة التأثير في جهود الحكومة العراقية الحالية على صعيد مكافحة الارهاب وتحقيق السيطرة الأمنية على البلاد، وابقاء السلاح بيد الدولة العراقية كسبيل وحيد لا مفر منه للقضاء على نفوذ الميلشيات وفوضى الانقسامات الطائفية التي تغري بالاحتكام إلى العنف ولغة السلاح.
من المعروف أن إحدى معضلات العراق تكمن في أن وجود السلاح بيد الميلشيات والتنظيمات وتداخل شبكات المصالح والتحالفات يجعل الأمر بالغ التعقيد، فهناك أطراف عديدة لا تريد للعراق استقراراً في هذه المرحلة ولا غيرها، وتريد الابقاء على الصراع الطائفي كشبح يخيم على أجواء هذا البلد العربي الكبير بشكل مستمر، والأمر لا علاقة له باستهداف للشيعة أو السنة لأن التجربة كشفت عن أن هؤلاء الارهابيين لا علاقة لهم بالأديان والمذاهب، فهم عصابات مرتزقة تجلب الأتباع من كل حدب وصوب بهدف الحصول على الأموال وأهداف أخرى عديدة لا علاقة لأي منها بالدفاع عن مذهب أو دين أو شعب أو غير ذلك من المزاعم التي يرددونها والشعارات التي يرفعونها.
والخلاصة أن تفجيرات العراق هي جريمة ارهابية مدانة، يجب أن يدفع مرتكبوها الثمن دون الاستغراق أو الانشغال بالنقاش حول هويتهم، فالارهاب اثبت أنه شبكات مصالح وتحالفات لا تعمل بمفردها، بل يخدم بعضها بعضاً، يتحالفون تارة ويتصارعون تارة، بحسب عوامل ودوافع معينة، وبحسب توظيفهم كأدوات تعمل لمصالح أطراف ترعى هذه الظاهرة البغيضة في هذه الدولة أو تلك. وعلى المجتمع الدولي الذي نسي أو تناسي الحرب ضد الارهاب أن يعيد إدراج هذا الخطر والتهديد المزمن على أجندته مجدداً، وأن يقدم الدعم اللازم للحكومة العراقية كي تضطلع بدورها في مكافحة هذه الظاهرة البغيضة والحيلولة دون وقوع العراق مجدداً بين براثن القوى الطائفية التي تعبث فيه فساداً منذ سنوات طويلة.