في مستهل خطواتها الأولى مع بداية الخمسينية الثانية، تبدو دولة الإمارات في قلب الأحداث اقليمياً ودولياً سواء من خلال حراك دبلوماسي لا يهدأ لتهيئة البيئة من حولها سياسياً واقتصادياً لتحقيق الأهداف الطموحة المتضمنة في وثيقة الخمسين، التي تتضمن عشرة مبادىء، تفسر جميعها ـ لمن يقرأها بدقة ـ ماوراء التحركات الدبلوماسية الإماراتيةالمتسارعة اقليمياً؛ فعلى سبيل المثال، نلحظ أن المبدأ الثاني ينص على "التركيز بشكل كامل خلال الفترة المقبلة على بناء الاقتصاد الأفضل والأنشط في العالم. التنمية الاقتصادية للدولة هي المصلحة الوطنية الأعلى......"، بينما ينص المبدأ الثالث على أن "السياسة الخارجية لدولة الإمارات هي أداة لخدمة الأهداف الوطنية العليا وعلى رأسها المصالح الاقتصادية لدولة الإمارات، هدف السياسة هو خدمة الاقتصاد وهدف الاقتصاد هو توفير أفضل حياة
لشعب الإمارات"، وهنا نلحظ الترابط بين السياسة والاقتصاد، وكيف أن الدبلوماسية يجب أن تحقق أهداف السياسة الاقتصادية، وأن التنمية الاقتصادية للدولة هي "المصلحة الوطنية الأعلى"، وأن "التركيز بشكل كامل" خلال الفترة المقبلة سينصب على بناء الاقتصاد الأفضل والأنشط عالمياً، وتكتمل الصورة تماماً بالاطلاع على المبدأ الخامس الذي يشير إلى أن "حسن الجوار أساس للاستقرار. المحيط الجغرافي والشعبي والثقافي الذي تعيش ضمنه الدولة يعتبر خط الدفاع الأول عن أمنها وسلامتها ومستقبل التنمية فيها. تطوير علاقات سياسية واقتصادية وشعبية مستقرة وإيجابية مع هذا المحيط يعتبر أحد أهم أولويات السياسة الخارجية للدولة"، وهذه الأطر جميعها تمثل منظومة متكاملة وقاعدة راسخة تنطلق منها تحركات الدبلوماسية الإماراتية خلال الفترة الأخيرة وتوضح بجلاء ماذا تفعل الدبلوماسية الاماراتية النشطة وماذا تستهدف ولماذا تتحرك في هذه الدوائر التي يعتبرها البعض تصفيراً للمشاكل، بينما يراها آخرون سعياً للموائمة بين المتناقضات والمتناقضين من أجل ضمان مصالح الدولة.
على الصعيد الاقتصادي والتنموي، أصدرت دولة الإمارات مؤخراً قراراً تستهل بها خطواتها في الخمسينية الثانية وهو قرار يتعلق بنظام العمل الجديد للحكومة الاتحادية، والذي ينص على أن يكون الدوام الرسمي أربعة أيام ونصف اليوم أسبوعياً، أي أن أسبوع العمل الرسمي سيصبح من الاثنين إلى الجمعة، وهو تغيير اجرائي وتنظيمي مهم للغاية وحظي باهتمام واسع من الأوساط الاعلامية والسياسية والاقتصادية والتجارية الدولية، لأن الأمر يتجاوز حدود مسألة تنظيم العمل، وينطوي على إشارات عميقة تتصل بتوجهات الاقتصاد الإماراتي ومعدلات انخراطه في الاقتصاد العالمي، فالقرار يجعل الإمارات واحدة من الدول القلائل في الشرق الأوسط التي تساير نظام العمل الغربي بديلاً عن النظام المعتاد في منطقتنا، والذي يقوم على أسبوع عمل يبدأ من يوم الأحد وينتهي الخميس.
لاشك أن هذا القرار يمثل تحولاً مهماً في ثقافة العمل والتنافسية الاقتصادية وتعزيز الرفاه الاجتماعي ودعم مؤشرات سعادة الأفراد والأسر وحركة المال والأعمال والأسواق والسياحة والتجارة في داخل الدولة، فأبعاد هذا القرار تتجاوز أي قراءة سطحية لتأثيراته، فالمسألة تتعلق بايقاع الامارات وتوجهها الدائم للابتكار والسبق والتميز في السياسات الادارية والتنظيمية من خلال ايقاع سريع للتغيير والتطوير عبر خطوات وقرارات مدروسة بعناية تتكىء على مخزون هائل من التجارب والدراسات التي يتم اجرائها على المستوى الوطني.
منذ بداية تأسيسها في الثاني من ديسمبر عام 1971، اعتادت الإمارات أن تكون في مقدمة ركب التطور التنموي في منطقتنا، لذا نجدها تحرص على أن تكون في الصدارة من خلال سياسات متجددة، تلاحق التطور في المجالات كافة، وتستفيد من كل الفرص المتاحة عالمياً، والرائع في المسألة أن أي منافسة اقليمية للنموذج الاماراتي تزيده إبهاراً وتسارعاً، بل يتخذ من قوة الدفع التي تولدها المنافسة طاقة تدفعه للتقدم والتطور بوتيرة أسرع من ذي قبل.
الإمارات تمضي وفق نهج تنموي مغاير لمحيطها الاقليمي، لذا من البديهي أن تعمل وفق آليات وفلسفة عمل مغايرة، فما تسعى الإمارات لتحقيقه يحتاج إلى عقول تفكر دائماً خارج الصندوق وتبحث عن دروب غير مألوفة للتطور والتميز وتعزيز تنافسية الدولة في مختلف مؤشرات التنمية والعمل والانتاج، والمسألة هنا لا علاقة لها بالهوية الثقافية والدينية وغير ذلك مما يحلو لبعض الكارهين العزف عليه في انتقاد أي سياسة أو توجهات تتبناها الدولة.
ثمة نقطة مهمة للغاية تستحق التأكيد عليها وهي أن نظام العمل الجديد في الإمارات يوائم بشكل واضح ومؤكد بين العادات والقيم الدينية المعتادة وثقافة الشعب الاماراتي من جهة وبين متطلبات تعزيز فرص الاستفادة من الانخراط في الأسواق العالمية من جهة ثانية، ومن يشكك في ذلك عليه أن يتابع ردود أفعال سكان الدولة، مقيمين ومواطنين، ليعرف جيداً أن القرار قوبل بترحاب وسعادة غامرة كونه يزيد أيام العطلة الأسبوعية إلى يومين ونصف، وبالتالي فإن محاولات خلط الأوراق وقلب الحقائق لن تنطلي على أحد لأنها باتت أمراً معتاداً اعتاد عليه كل الحاقدين على الإمارات ومسيرتها الناجحة.
نظام العمل الجديد يمثل ، برأيي ، توجهاً ترغب فيه وتطمح لتنفيذه الكثير من الدول العربية والاسلامية الطامحة للانخراط في الاقتصاد العالمي، ولكن هناك مخاوف من ردود الأفعال الراديكالية والاتهامات المقولبة، ولكن الإمارات لا تعبأ بمثل هذه العوائق والكوابح الساذجة للتطور والتقدم، لاسيما أن أيام العطلة الأسبوعية الجديدة التي ينتقدها البعض تطبقها دول تمثل قدوة لهؤلاء المنتقدين!