لطالما تناولت الأدبيات السياسية مفهوم "الشرق الأوسط الجديد" في فترات وحقب زمنية مختلفة، حيث تردد المفهوم خلال وفي أعقاب حرب العراق عام 2003، كما تردد عقب موجة الفوضى والاضطرابات التي اندلعت في دول عربية عدة عام 2011، وقفز المفهوم مجدداً في الآونة الأخيرة إلى صدارة التناول الاعلامي والسياسي على خلفية تحركات الدبلوماسية النشطة التي تقوم بها دول المنطقة، ولاسيما السعودية و الإمارات، حيث تتحرك الدبلوماسية الاماراتية بنشاط مكثف وتمسك بزمام المبادرة سعياً لتبريد الأزمات وتهدئة الأجواء اقليمياً مع دول مختلفة منها تركيا وإيران فضلاً عن تحقيق اختراق نوعي مهم في العلاقات مع سوريا. وبموازاة ذلك تتحرك الدبلوماسية السعودية سواء من خلال الانفتاح على الحوار مع إيران أو الجولة الخليجية المهمة التي يقوم بها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان،.
هذا النشاط الدبلوماسي الفعّال يمثل تطوراً نوعياً مهماً وينطوي على دلالات استراتيجية لا يمكن تجاهلها، وفي مقدمتها أن العواصم العربية الفاعلة لم تكن مجرد طفرة برزت في اعقاب الفوضى والاضطرابات التي اندلعت في عام 2011، بل باتت سمة من سمات الأداء السياسي والدبلوماسي لهذه العواصم، فأبوظبي باتت تتحرك دوماً بنشاط وفاعلية وديناميكية ترسم خارطة جيوسياسية اقليمية جديدة، والزيارات التي قام بها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي لتركياً، وسمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي لسوريا، وسمو الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان مستشار الأمن الوطني إلى إيران، جميعها تمثل تحركات خارج صندوق التوقعات التقليدي، وتعكس نمطاً جديداً من التفكير الاستراتيجي الاماراتي في معالجة القضايا والأزمات مع دول المنطقة من خلال نهج البناء على المشتركات وإدارة الاختلافات القائمة بين الدول.
الخارطة السياسية الجديدة في منطقة الشرق الأوسط تشهد تغيرات جذرية أخرى مثل المصالحة الخليجية، ما يعني أن الأمور تتجه إلى حالة من الوفاق الاقليمي تحل محل الخلافات والصراعات بين القوى الاقليمية، وذلك استناداً على أرضية التفاهم غير المسبوق حول إعلاء التعاون والمصالح الاقتصادية فوق ماعداها من متطلبات سياسية، ما يعني أننا بصدد شرق أوسط جديد يتشكل على وقع الشكوك المتنامية لدى الكثيرين حيال مصير الالتزامات الأمريكية المستقبلية بشأن أمن واستقرار المنطقة إثر تركيز واشنطن على أولوياتها المتعلقة بالتصدي للنفوذ الصيني المتنامي سواء في شرق آسياً أو على الصعيد العالمي لمزاحمة الهيمنة الأمريكية على مفاصل النظام العالمي القائم.
حالة الوفاق الاقليمي تتبلور بفعل تحركات دبلوماسية اماراتية تتسم بالجرأة والمبادرة والتفكير خارج الصندوق، والمسألة لم تبدأ بالتحرك الدبلوماسي الاماراتي حيال تركيا وإيران، ولكن بدأ فعلياً بتوقيع اتفاق السلام الابراهيمي مع إسرائيل، وبموازاة ذلك نشطت الدبلوماسية السعودية في تحركات مشابهة استهدفت فتح قنوات الحوار مع إيران وتسوية الخلاف مع قطر، واستعادة زخم العلاقات الخليجية ـ الخليجية لتدخل المنطقة مرحلة جديدة من الاستقرار والهدوء النسبي وطي صفحة الاستقطاب الحاد الذي خيم على الأجواء لعقد كامل تقريباً. والامر الايجابي في المشهد الاقليمي الذي يعاد ترتيبه بمبادرات دبلوماسية جريئة تقودها الامارات أنه يتشكل وفقاً للمصالح الاستراتيجية الخليجية والعربية، ولا يُترك الزمام فيه للقوى الاقليمية التي فرضت نفوذها طيلة السنوات العشر الماضية، كما تحكمت في بوصلة التحالفات الاقليمية بفعل هيمنتها على دول عربية عدة واستغلال انشغال العواصم العربية المؤثرة باطفاء الحرائق التي اندلعت داخلياً وخارجياً في مناطق عربية عديدة.
نجحت الإمارات في الخروج من جائحة كورونا بأقل الخسائر، بل قدمت في هذه الأزمة نموذجاً يحتذى به في إدارة الأزمات الطارئة واحتواء آثارها والحد منها داخلياً وتقديم يد العون والمساعدة لبقية شعوب العالم خارجياً، ومن ثم انطلقت الإمارات للعب دور فاعل كقوة اقليمية مؤثرة تسهم في تشكيل النظام الاقليمي ومن ثم العالمي في مرحلة مابعد كورونا، وتفادي الآثار السلبية المتوقعة للتراجع الاستراتيجي الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط والتركيز على إدارة الصراع مع القوى الدولية المنافسة ـ الصين وروسيا ـ فضلاً عن تراجع أولوية النفط في حسابات صانعي القرار الأمريكي.
الخلاصة أن الدبلوماسية الاماراتية والسعودية قد انتقلت من مربع رد الفعل لسياسات القوى الاقليمية والدولية إلى مربع الفعل والتأثير والامساك بمزمام المبادرة والمبادأة بإعادة هندسة التوازنات الاقليمية بما يتوافق مع مصالح الدول والشعوب العربية وملء الفراغ الاستراتيجي الناجم عن غياب التأثير التقليدي للولايات المتحدة، ثم الاعتماد على الذات في البحث عن الأمن والاستقرار وتهيئة البيئة الاقليمية لمتطلبات التنمية وحل الأزمات القائمة مع دول مثل قطر وتركيا وإيران، واستعادة سوريا إلى حاضنتها العربية ودعم العراق وليبيا والسودان واليمن والسعي لتحقيق الاستقرار الداخلي في هذه الدول، وترسيخ قواعد جديدة لإدارة الخلافات الاقليمية وفق نهج يعتمد على اعلاء التعاون الاقتصادي وتفادي آثار التنافس والصراع السياسي والاستراتيجي.