يوماً بعد آخر يزداد تعقيد المشهد الليبي بشكل يثير التساؤلات لأن التوافق السياسي الفعلي في هذا البلد العربي يبدو بعيداً للغاية، فالانتخابات التي كان يعول عليها الكثيرون أن تكون مدخلاً للخروج مما يوصف بالانسداد السياسي واستعادة الأمن والاستقرار قد تم تأجيلها لمدة شهر من الموعد الأصلي بحسب مقترح المفوضية العليا للانتخابات، وهو الموعد الذي لم يتم البت فيه رسمياً حتى كتابة هذه السطور.
الأزمة التي واجهت الانتخابات الليبية، وتتعلق بما وصف بقصور التشريعات الانتخابية وتحديداً دور القضاء في البت في الطعون والنزاعات الانتخابية، يمكن معالجتها لكن ما يصعب معالجته بالفعل هو البيئة التي تضمن إجراء انتخابات نزيهة في مختلف ارجاء ليبيا، حيث تنتشر الميليشيات والسلاح ويلوح شبح تجدد القتال بين الفينة والأخرى!
أسباب استمرار الأزمة في ليبيا واضحة للمجتمع الدولي بأطرافه كافة، وهناك قرارات واتفاقات وتفاهمات عديدة لم تترجم على أرض الواقع بسبب تضارب المصالح بين القوى الإقليمية والدولية وما يتبع ذلك من انقسامات حادة تبدو في مجملها صدى لهذا التضارب، لذا تبدو أزمة الداخل مجرد صدى أو ردة فعل لأزمة الخارج، أو بالأصح للبيئة الدولية المعنية بالصراع في الداخل الليبي.
صحيح أن السبب المعلن لتأجيل الانتخابات الليبية يتعلق بالأسس التشريعية والقانونية، وبغض النظر عن الطرف الذي يتحمل مسؤولية ما يوصف بالقصور أو الثغرات التشريعية التي فتحت الباب أمام تعذر إجراء الانتخابات، سواء كان البعثة الأممية، وتحديداً المبعوث الدولي السابق إلى ليبيا يان كوبيتش كما يرى كثيرون، أو الفاعلين الليبيين، فإن هذا الأمر لا ينفي وجود عوامل واعتبارات ربما تكون أقوى من هذا السبب، وهنا يطرح تساؤل مهم يتعلق بجدوى الرهان على هذه الانتخابات في عبور ليبيا إلى بر الأمان، وهل يمكن أن تكون هذه الانتخابات طوق الإنقاذ لليبيا بالفعل؟.
المعضلة الأخطر التي تواجه ليبيا على المدى القصير تتمثل، برأيي، في عدم القدرة على إجراء الانتخابات في الموعد الجديد الذي تم تحديده بشكل مبدئي في الرابع العشرين من يناير المقبل، وهذا السيناريو وارد بدرجة ليست قليلة بالنظر إلى التعقيدات القائمة، ولا سيما ما يتعلق بتوفير بيئة أمنية ملائمة للاستحقاق الانتخابي، ناهيك عن الصعوبات اللوجستية والتنظيمية المترتبة على التأجيل.
الشواهد الأولية تقول إن القوى الغربية، الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وايطاليا، تضغط بقوة باتجاه تحديد موعد جديد للانتخابات، وطالبت في بيان مشترك بالإسراع في «تحديد موعد نهائي للانتخابات ونشر القائمة النهائية للمرشحين للرئاسة دون تأخير»، وهذا أمر جيد لكنه يتطلب ترجمة فعلية على أرض الواقع من خلال إجراءات ومواقف جادة للدفع باتجاه إجراء الانتخابات ثم العمل على التخلص من كل مسببات الفوضى التي قد تحول دون تمكين الشخصيات المنتخبة من إدارة شؤون البلاد.
الحقيقة أن طوق النجاة الوحيد لليبيا يتمثل في التوصل إلى توافق سياسي قائم على إعلاء المصالح الوطنية للشعب الليبي، وهذا الأمر لا تحسمه الانتخابات بل يحسمه الحوار الجاد بين الأطراف جميعها في ليبيا، فالخلافات الحقيقية لا تتركز في موعد الانتخابات بل في الأسبقيات، البرلمانية أولاً أم الرئاسية؟ وفي التلويح بالسلاح في كل مناسبة!
وهنا لا بد من التذكير بأن صندوق الاقتراع قد يكون ـ نظرياً ـ مدخلاً لتحقيق الاستقرار وطي صفحة الصراعات في أي بلد يعاني الفوضى والاضطرابات والانقسامات، ولكنه ـ عملياً ـ يبقى رهن توافق الأطراف والفرقاء كافة على الاحتكام للشعوب والاستماع لصوتها واعتبار الصندوق هو الطريق الأضمن لرسم بداية صحيحة لمرحلة مابعد الصراعات، ولكن التجارب تقول بغير ذلك وفقاً لحالات مختلفة في دولنا العربية على وجه التحديد، فلم تفلح التجارب الانتخابية العديدة التي جرت بالعراق -على سبيل المثال- في تحقيق الاستقرار السياسي المنشود في البلاد.
وقد أشرت في مقال سابق لي إلى أن الهاجس الحقيقي في ليبيا لا يتعلق بكيفية عقد الانتخابات وآلياتها بل يتعلق بفرص انعقاد هذه الانتخابات من الأساس، وقلت إن الأوراق الليبية كلها تختلط ببعضها البعض، فبعض المرشحين الأقوياء يحظون بدعم من دول مؤثرة في الشأن الليبي، يقابله رفض من دول أخرى لا تقل تأثيراً سواء بحكم الواقع الذي يجعل من بعض الأطراف ذات الصلة مركز قوة فعلي، أو عوامل الجغرافيا أو الروابط التقليدية أو المكانة الدولية التي تمنح هذا أو ذاك الطرف النفوذ أو القدرة على الفعل والتأثير.
قناعتي الشخصية أن المعضلة في ليبيا، شأنها شأن حالات عربية أخرى، تتمثل في أن نموذج الحكم القديم لم يعد صالحاً، ونموذج التغيير الفوضوي قد دفع هذه البلاد إلى مربع الدول الفاشلة، وبالتالي يبقى الرهان على قدرة أبنائها على تجاوز تعقيدات الحاضر ومرارات الماضي والتطلع إلى المستقبل على قاعدة المصالحة الوطنية لأن البديل لذلك كله هو الخضوع لإرادة تنظيمات الارهاب والتطرف والجماعات السياسية التي لا تمتلك مشروعاً قادراً على معالجة أزمات الشعوب وقيادة الدول إلى المكانة التي تليق بها، وبالتالي استمرار المخطط الفوضوي الذي يسمح لكل عوامل الفشل والفوضى والعنف وسفك الدماء بالاستمرار ليس في ليبيا وحدها بل في منطقتنا العربية ككل.
والسيناريو الذي يجب أن ينتبه إليه جميع الفرقاء في ليبيا، وكذلك القوى الإقليمية والدولية هو أن تتحول ليبيا إلى نسخة مكررة من الحالة اللبنانية بوجود ميلشيات وقوى تمتلك السلاح والنفوذ والولاءات الخارجية بحيث تستطيع مقارعة نفوذ الدولة وجيشها الوطني، أو على الأقل إزعاج المؤسسات المسؤولة عن بسط الأمن بحيث تصبح تحدياً لها، وهذا يستلزم من الجميع ضرورة تجاوز الصراعات القبلية والمناطقية والجهوية وإعلاء المصلحة الوطنية ثم التفرغ لما هو أهم وهو التخلص من الميليشيات وحصر السلاح بيد الدولة كسبيل وحيد لضمان الأمن والاستقرار للشعب الليبي.