كنا ـ كمراقبين ـ نرى في موقف المجتمع الدولي إزاء ممارسات ميلشيات "الحوثي" اليمنية وانتهاكاتها للقانون الدولي نوع من الصمت الناجم عن الانقسامات الدولية، وكذلك التحولات المتسارعة في هيكل العلاقات الدولية، ولكن حدوث ما حذرنا منه مراراً من امتداد خطر هذه الميلشيا إلى البحر، وتحولها إلى مصدر تهديد مباشر للأمن البحري، يجعلنا ندق أجراس الانذار بشدة خشية أن تقود الميلشيات المنتشرة في منطقتنا العالم كله إلى كارثة.
مؤخراً، احتجزت ميلشيات "الحوثي" سفينة ترفع علم الامارات قرب ميناء الحديدة في البحر الأحمر، ونشرت "فيديو" للسفينة تحاول فيه اثبات مزاعم لم تنطلي على أحد، حيث بدا ما تصوره "الحوثي" دليل إدانة خالياً من أي إدانة، فالسفينة التي سارعوا إلى تصويرها وتقديمها للعالم في محاولة خائبة لكسب التعاطف، لم تكن تحمل سوى سيارات ومعدات حاول المتحدث الحوثي عبثاً الايهام بأنها معدات عسكرية، فجاءت محاولته مثيرة للشفقة والسخرية في آن معاً! لكن ما اثبتته الواقعة بالدليل القاطع هو أن هذه الميلشيا باتت تمارس القرصنة البحرية بشكل ينذر بامتداد خطرها وتوسعها ليشمل الأمن البحري، بعد أن تمادت طويلاً في تهديد المملكة العربية السعودية بالصواريخ التي تطلقها بشكل شبه معتاد على المدن والمناطق الاستراتيجية!
الحوثي ـ عبر هذه العملية الاجرامية ـ يريد لفت أنظار العالم إلى قدرته على تهديد الأمن البحري في مضيق باب المندب، ويحاول كسب نقاط جديدة في صراع الهيمنة على الدولة اليمنية، ولكن الأمر يبدو أبعد من ذلك، لأن انتقال الصراع اليمني إلى البحر يجب أن يلفت انتباه المجتمع الدولي إلى هذا التطور الخطير، فميلشيات الحوثي تنفذ مخططاً استراتيجياً اقليمياً خطيراً، ولا يجب أن يمر مرور الكرام توقيت اختطاف السفينة التي تحمل علم الامارات وتزامنه الذي لا تخطئه عين مراقب، مع تحركات تصعيدية أخرى اقدمت عليها أذرع ميلشياوية أخرى في العراق وسوريا والأراضي الفلسطينية، والمسألة برمتها ليست من قبيل المصادفة، فالتنسيق بين هذه الميلشيات جميعها قائم على مدار الساعة وتحركاتها محسوبة بدقة لأنها جميعاً تتبنى أهدافاً واحدة وتتلقى تعليمات أحادية المصدر.
من المعروف أن منطقة باب المندب تعاني ـ أمنياً ـ منذ سنوات جراء انتشار عصابات القرصنة البحرية على شواطىء القرن الافريقي، ولكن انخراط ميلشيا الحوثي في أنشطة القرصنة والجريمة البحرية يعطي للتحدي القائم في هذه المنطقة بعداً أكثر خطورة، بالنظر إلى الأجندة الطائفية التي تحملها هذه الميلشيات وتسعى إلى تحقيق أهدافها من خلال انتهاكات تتجاوز الأهداف التقليدية لجرائم القرصنة البحرية المعتادة.
أمن المياه الدولية في البحر الأحمر وباب المندب يتعرض بشكل واضح للخطر نتيجة سعي ميلشيا الحوثي للتحكم في الملاحة البحرية وترسيخ نفسها رقماً صعباً يحدد قواعد المرور البحري الآمن في هذه المنطقة الاستراتيجية، والصمت على عملية القرصنة الأخيرة سيغري بتكرارها في قادم الأيام، مايضع أمن التجارة العالمية كله في مواجهة خطر داهم.
اعتاد الحوثي القيام بما يسميه بعمليات نوعية، وهي في حقيقة الأمر انتهاكات تستهدف لفت الأنظار وخلط الأوراق لتعزيز موقفه في الصراع الدائر في اليمن، فهو لا يكف منذ أشهر عن تنفيذ خطط تعكس رغبته في الاستفادة القصوى من الارتباك الحاصل في العلاقات الدولية، وانشغال الولايات المتحدة بقضايا وملفات بعيدة عن منطقة الشرق الأوسط. والحقيقة أن استمرار العجز الدولي عن ايجاد أي تسوية سياسية للأزمة في اليمن وإجبار هذه الميلشيات المارقة على وقف هجماتها والاذعان للجهود الأممية، لا يصب في مصلحة الأمن والاستقرار العالميين.
ردع خطر ميلشيات الحوثي لن يتحقق بالنداءات والدعوات الدولية، وإذا كانت الولايات المتحدة تمر بمرحلة انتقالية تنشغل فيها عن الاضطلاع بمهامها في دعم الأمن والاستقرار بمناطق نفوذها التقليدية، فإن منطقة الخليج العربي لا تهم الولايات المتحدة، كقوة عظمى فقط، بل هي في قلب الاهتمامات الاستراتيجية لجميع القوى الكبرى من دون استثناء، لذا فإن من الخطأ غض الطرف عما يدور في هذه المنطقة الحيوية من أحداث، فالصين وروسيا ودول الاتحاد الأوروبي لا يجب أن تنظر لانتهاكات ميلشيات الحوثي باعتبارها شأناً يخص هذا الطرف أو ذاك لأن كرة الثلج يمكن أن تكبر وتتدحرج وتؤثر سلباً في مصالح الجميع.