كلما خطت إحدى الدول العربية التي تعاني تفشي داء أخطر من وباء «كورونا»، وهو داء انتشار الميلشيات الممولة من الخارج والموالية له، كلما خطت هذه الدول خطوة للأمام تحاول هذه القوى الطائفية جذبها للخلف مجدداً بادعاءات وأكاذيب لا علاقة لها بالواقع. وبالأمس بعد أن تجاوز العراق، هذا البلد العربي العريق، انتخابات رئاسة البرلمان، باختيار محمد الحلبوسي رئيساً للمجلس النيابي، عادت لغة التهديد والوعيد إلى الساحة السياسية مجدداً، حيث أصدرت بعض الميلشيات بيانات تلوح بعودة العنف وتهدد بحدوث ردة للواء.
في ظل هذه التهديدات المتكررة، يبدو من المهم للعراق أن يخرج من حسابات الطائفة والعرق والمذهب، والعمل وفق قاعدة راسخة ترتكز على إعلاء الولاء والانتماء الوطني، ولكن من المؤكد أن الوصول إلى هذه النقطة ليس سهلاً على الاطلاق في ظل نفوذ الميليشيات المسلحة وسطوتها على الحياة السياسية طيلة السنوات الأخيرة، ورغم أن مخرجات العملية الانتخابية الأخيرة قد وضعت النقاط على الحروف وعكست إرادة الشعب العراقي بشكل جلي.
يجب أن يتذكر الجميع أن الرسالة الأبرز في الانتخابات التشريعية العراقية الأخيرة قد عبرت عن رفض العراقيين الشديد للطائفية المسلحة والولاءات المذهبية العابرة والتدخل في شؤونهم الداخلية، حيث تراجعت معدلات التصويت لكتل وتيارات وفصائل معينة بشكل لا يمكن التغطية عليه أو صرف الأنظار عنه، لذا يفترض أن تتعامل القوى السياسية العراقية مع الواقع السياسي الجديد بشكل يعلي قيمة المصلحة العامة، ويعكس قناعة الجميع بقواعد صناديق الاقتراع طالما ارتضوا الاحتكام لها؛ فليس من المنطق أن تُقبل النتائج حين تكون في مصلحة هذا التيار أو ذاك وتُرفض حين تأتي معاكسة لمصالحهم!
وأياً كانت المفهوم السياسي الذي يتوقع أن تتم بموجبه الحكومة العراقية المقبلة، وسواء كانت حكومة توافق الأغلبية أو حكومة ائتلافية بصيغة جديدة كما قيل، أو حكومة أغلبية وطنية، أو أياً كان معيار تشكيل هذه الحكومة والقواعد التي تؤسس بموجبها، فإن من المهم التأكيد على أن طوق الإنقاذ الوحيد لخروج العراق من عنق الزجاج الحالي هو إعلاء جميع التيارات والفصائل مصلحة العراق والعراقيين والاحتكام للضمير الوطني في هذه الظروف التي يحتاج العراق فيها إلى جهود كل المخلصين من أبنائه لاستئناف جهود تحقيق الأمن والاستقرار والبناء.
والحقيقة أن العراق لن يعود سوى من خلال بوابة الحياة المؤسسية التي تعيد الاعتبار للدولة العراقية للتحكم بمفاصل الحياة وإبعاد الميليشيات والفصائل المسلحة عن المشهد السياسي، لا سيما أن خيارات الشعب العراقي ترسم خارطة سياسية للعراق خلال المرحلة المقبلة.
ولا يخفى على أحد من المراقبين أن البيانات التي تصدرها قوى طائفية وتحذر فيها مما تسميه بـ الأيام العصيبة التي ستمر على العراق»، تعكس نوايا شر مبيتة تستهدف اجهاض كل محاولات تحقيق الأمن والاستقرار والترويج لمزاعم وأكاذيب لا نصيب لها من الصحة، والادعاء غير الصحيح بوجود تدخلات لأطراف إقليمية ودولية في العراق رغم أن الجميع يعرف تماماً هوية الطرف الحقيقي الذي يحرك هذه الميليشيات من وراء الستار وهو إيران.
المؤكد أن هذه التهديدات وغيرها لن تختفي مرة واحدة من الساحة العراقية، لسبب بسيط هو أن نتائج الانتخابات الأخيرة لم تأت وفق هوى من يحاولون مواصلة اختطاف إرادة العراق والعراقيين، وبالتالي فإن الحل هو أن يمضي هذا البلد العربي الكبير في خطوات البناء السياسي الجديد وفق المعايير التي رسمتها إرادة العراقيين عبر صناديق الاقتراع، ولا سيما أن العراق يقف على أبواب انفراجة اقتصادية واستثمارية مهمة بعد خروجه من قائمة الاتحاد الأوروبي للدول ذات المخاطر العالية في مجالي مكافحة غسل الأموال وتمويل الارهاب، ما يتوقع له أن يسهم في تسريع عمليات إعادة الإعمار وتحريك النشاط الاقتصادي بمختلف أوجهه وقطاعاته.
وفي ضوء ما سبق من تجاذبات وتهديدات وتلويح بالعنف والفوضى، يبدو من الضروري أن يحصل العراق خلال الفترة المقبلة على مساندة ودعم عربي ودولي قوي لمواصلة جهوده للخروج من عنق الزجاجة الحالي، إذ إن عودة العراق لاستئناف دوره الطبيعي في إطار توازنات القوى الاقليمية لا تصب فقط في مصلحة الدول العربية، ولكنها تؤثر ايجاباً في الأمن والاستقرار الدوليين لكن الأهم أن يتوقف التدخل الإيراني بالشأن العراقي، وأن تتخلى الأحزاب عن ولاءاتها لإيران، وأن يحصر السلاح بالدولة، دون أن يكون للميليشيات الحق في امتلاكه.