في خضم الصراعات والتوترات العالمية بدأ مفهوم "الحرب الإدراكية" يتردد كثيراً في التقارير الإعلامية، حيث تتهم بعض الأطراف، دولاً أخرى بشن حرب إدراكية ضدها من خلال المناورات واستعراضات القوة وغير ذلك من مظاهر هذه الحرب. كما تتواتر إلى الآذان مفاهيم ذات صلة مثل السيكولوجيا السيبرانية، أو علم النفس السيبراني، وهو أحد نتاجات التطور التقني والتفاعل بين علم النفس وتكنولوجيا الإتصال الحديثة، ويدرس الظواهر السلوكية والنفسية المرتبطة بهذه التكنولوجيا.
الحرب الإدراكية تستخدم من دون شك نظريات علم النفس التقليدية والحديثة معاً، وتشهد تطوراً متسارعاً انتقل بها من حروب الأجيال (الرابع والخامس...الخ) إلى حرب إدراكية شاملة ربما لا تختلف كثيراً حروب الأجيال التي أشرت إليها سالفاً، ولكنها أكثر تطوراً وعمقاً من حيث توظيف نظريات علم النفس والسيكولوجيا السيبرانية في السيطرة على المجتمعات وتغيير قناعات الأفراد وسلوكياتهم.
خلاصة كل ماسبق وما يدور في مختبرات تطوير الحروب ونظرياتها في الدول الكبرى يتمحور حول العقل البشري، الذي أصبح ميدان الصراع الحقيقي بين الدول. ورغم أن الحروب التقليدية لا تزال تمثل خطراً فعلياً على الأمن والاستقرار الدوليين كما يحدث حاليا في مناطق عدة من العالم، فإن الحروب الإدراكية تعمل بالتوازي معها وتمثل خطراً أكثر إستدامة من الحروب التقليدية، كونها تعد حروب المستقبل وساحات صراعه هي الأكثر تدميراً للعقل البشري.
حروب الماضي وكثير من حروب الحاضر استهدفت البني التحتية والمنشآت، ولكن الخطر الأكبر يكمن في الدمار الذي ينتظر عقول الدول المستهدفة بالحروب الإدراكية، فهي ليست كحروب الجيل الرابع من حيث تغيير القناعات وتغييب الوعي والتلاعب بالعقول والأفكار، من خلال الشائعات والحرب النفسية وغير ذلك من أدوات معروفة، فهي تسلك مناهج أكثر عمقاً وخطورة، حيث توظف الذكاء الإصطناعي في التلاعب بمدركات المجتمعات والشعوب بشكل كامل، وصولاً إلى تغيير السلوك البشري وذلك من منهجيات تعتمد على فهم السلوك البشري ودوافعه بالإعتماد على قواعد بيانات هائلة للبشر، بحيث يتم تحليل هذه البيانات وفهم الدوافع السلوكية ومن ثم التحكم بها كما يحدث بالنسبة لشركات التسويق العملاقة التي تستخدم أساليب التحليل النفسي لفهم السلوك البشري في عمليات الشراء ومن ثم التسلل إلى العقل وبناء الدوافع والمحفزات التي تستهدفها هذه الشركات.
كل هذه العمليات أساسها البيانات الشخصية التي يتم جمعها من خلال مختلف وسائل التواصل والإتصالات، حتى أصبحت واحدة من أغلى المقتنيات التي تحتاجها الأنظمة الخوارزمية وعمليات الذكاء الإصطناعي من أجل فهم سلوكيات الأفراد ومن ثم التحكم بها.
الأبحاث العلمية الحديثة تتحدث عن البيانات باعتبارها أحد الأصول الإستراتيجية للدول، والذكاء الإصطناعي يتطور بشكل هائل وينتج بوتيرة متسارعة مفاهيم واتجاهات جديدة ولاسيما في مجال علاقة الإنسان بالتقنيات، وأكثر ما يشغلني في هذا الاتجاه هو موقع العالم العربي من هذا التطور العلمي الكبير، وكيف أن العديد من الدول العربية لا تزال تعاني أنظمة تعليمية متخلفة لا تصلح تماماً لتخريج أجيال قادرة على فهم تحديات الحاضر والتعامل معها، ناهيك عن المستقبل بكل ما ينطوي عليه من قفزات تقنية متوقعة.
الدول العربية، أو بعضها على الأقل ينخرط بشكل فاعل في مواكبة التطور العالمي حول تقنيات الذكاء الإصطناعي واستخداماتها المدنية والعسكرية، ولكن لا تزال وتيرة مواكبة التطور العالمي في هذا المجال تقتصر على شريحة ضئيلة للغاية من الدول العربية، كما أن بعض جوانب التطور في هذا المجال لا تزال غائبة تماماً، والأمر هنا لا يشمل المنطقة العربية فقط، بل يطال مناطق عديدة من العالم، حيث تكاد بعض الدول المتقدمة أن تحتكر هذه المعارف باعتبارها مصادر القوة الجديدة في القرن الحادي والعشرين، ونرى من حولنا كيف أسهمت التكنولوجيا في إحداث تغيرات لافتة في صناعة الأسلحة على سبيل المثال، حيث نرى كيف أن روسيا، وهي إحدى القوى الكبرى في مجال الصناعات الدفاعية والعسكرية، تتجه إلى إيران لشراء مسيّرات تستخدمها في مواجهة المسيراّت التركية التي تزعج الجيش الروسي في أوكرانيا، وهو تحول لافت من دون شك في المجال الدفاعي، بعد أن لعبت الطائرات من دون طيار دوراً مؤثراً في حسم الكثير من المعارك خلال السنوات الأخيرة، وكيف تسهم في تقليص أهمية العتاد التقليدي الذي تعتمد عليه الجيوش في حروبها.
المعضلة الكبرى أن الحروب الإدراكية وغيرها لن تكون المحطة الأخيرة في هذا السباق الشرس، بل يتوقع أن تكون هناك اختراقات أخرى أكثر تأثيراً ولاسيما فيما يتصل بالعلاقة بين الإنسان والتقنية وحدود التأثير والتأثر المتبادل في هذا السياق، حيث يصعب حتى توقع ما يمكن أن يحدث على هذا الصعيد. هذا الأمر يتطلب اهتماماً حقيقياً بالتعليم والبحث العلمي، ورفع مخصصات هذا القطاع بشكل يتناسب مع أهميته في مستقبل الدول والشعوب.