يدرك من يتابع اتجاهات السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة، مدى التطور الذي طرأ على هذه السياسة، سواء من حيث المرونة والديناميكية والفاعلية، أو من حيث القدرة على الإمساك بزمام المبادرة والتحرك باتجاه تحقيق مصالح المملكة في مختلف أرجاء العالم، وهما أمران مترابطان ومرتبطان بشخصية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي أضفى على سياسات بلاده سمات فريدة جعلت منها محور اهتمام عالمي كبير.
مؤخراً، بدأ الأمير محمد بن سلمان زيارة لليونان تليها فرنسا، وذلك بعد فترة وجيزة من استقبال المملكة للرئيس الأمريكي جو بايدن، في زيارة حظيت باهتمام واسع النطاق لما لها من دلالات ترتبط بإعادة تعريف أسس العلاقات التاريخية القائمة بين الرياض وواشنطن، والتي شهدت في السنوات الأخيرة قدراً من الجدل وسيطر عليها بعض التوتر، ولكنها في الأخير تبدو في طريقها نحو العودة إلى مسارها الطبيعي، ولكن بقواعد وأسس جديدة تضع مكانة الشريك السعودي ونفوذه الإقليمي والدولي المتزايد في الحسبان.
تأتي زيارة الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي إلى اليونان، حيث أجرى محادثات مهمة مع كيرياكوس ميتسوتاكيس رئيس الوزراء اليونان، في توقيت مهم يتناسب مع أهمية العلاقات السعودية- اليونانية، التي تتميز بمكانة خاصة لدى الرياض وأثينا، حيث انعكس ذلك في توقيع اتفاقية إنشاء مجلس الشراكة الاستراتيجية السعودي اليوناني، خلال هذه الزيارة، فضلاً عن اتفاقيات أخرى في مجال الطاقة، ومذكرات تفاهم للتعاون في مجالات الرياضة والتعاون العلمي والتقني والصحي، واتفاقية بشأن التعاون في مجال مكافحة الجريمة، وأخرى تتعلق بحماية وتشجيع الاستثمار بين البلدين.
أهمية اليونان بالنسبة للمملكة العربية السعودية، يعكسها اختيار أثينا كمحطة افتتاحية ضمن الجولة الأولى التي يقوم بها ولي العهد السعودي خارج منطقة الشرق الأوسط من زيارته لليابان لحضور قمة العشرين في عام 2019، كما تأتي في إطار جولة أوروبية تشمل اليونان وفرنسا، حيث تحظى الدولتان بمكانة خاصة في السياسة الخارجية السعودية، وحيث تتسم العلاقات السعودية- الفرنسية أيضاً بقوة متنامية منذ زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لباريس في عام 2018، حيث تم توقيع 19 بروتوكولاً واتفاقاً بين الجانبين.
والواقع أن اليونان لديها رصيد كبير من التقدير لدى القيادة السعودية، حيث أثبتت أثينا أنها شريك موثوق منذ موقفها المهم في سبتمبر 2021، حين قررت إرسال منظومة صواريخ «باتريوت» إلى المملكة على سبيل الإعارة وقوات يونانية محدودة تابعة للجناح القتالي 114 يبلغ عددها 120 جندياً، بموجب اتفاق جرى توقيعه بين البلدين في أبريل 2021 للعمل على هذه المعدات عقب قرار الولايات المتحدة سحب أنظمة صواريخ ومعدات وجنود من المملكة ومناطق بالشرق الأوسط، وهو موقف يثبت قوة الروابط بين الرياض وأثينا، ويؤكد جدارة اليونان بأن تكون شريكاً يمكن الاعتماد عليه في المرحلة المقبلة، خصوصاً أن الرياض تمتلك علاقات حيوية متنامية مع دول الاتحاد الأوروبي سواء على المستوى الجماعي أو الثنائي.
ولعل أكثر ما يميز هذا التحرك السعودي المهم نحو أوروبا، أنه يأتي في توقيت بالغ الحيوية بالنسبة للجانبين معاً، المملكة وشركائها الأوروبيين، فبالنسبة للرياض يمثل هذا التحرك نقطة انطلاق جديدة باتجاه إعادة بناء شبكة التحالفات الدولية للمملكة، وتوسيع قاعدة الشراكات الاستراتيجية القائمة مع دول العالم، اعتماداً على التنوع وارتكازاً على مجموعة واسعة من المصالح المشتركة بين الرياض وهذه الدول، ما ينعكس بشكل إيجابي على اقتصاد المملكة وقدرتها ونفوذها ومكانتها الإقليمية والدولية، لاسيما أن هناك تاريخاً عميقاً تستند إليه العلاقات السعودية- الأوروبية بشكل عام، حيث وصف خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، علاقات المملكة بالاتحاد الأوروبي بـ»التاريخية»، مؤكداً أن الاتحاد الأوروبي من أهم الشركاء الدوليين للمملكة.
ولاشك أن زيارة الأمير محمد بن سلمان لليونان وفرنسا في هذا التوقيت بالغ الأهمية، وحيث يتصاعد تأثير الأزمة الأوكرانية، على المستويات الاقتصادية تحديداً، تمثل دعماً قوياً لشركاء المملكة الأوروبيين، لاسيما أنها تأتي عقب زيارة مماثلة قام بها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات إلى فرنسا، وحيث يدرك الجميع عمق واستمرارية التنسيق والتشاور بين أبوظبي والرياض، بما يعكس توجهاً مشتركاً لدول مجلس التعاون لمساندة اقتصادات الشركاء الأوروبيين لاسيما في مجال الطاقة، وتهدئة القلق الناجم عن تداعيات انقطاع محتمل لإمدادات الغاز الروسية، وارتفاع متصاعد لأسعار الطاقة، والتضخم الذي يجتاح دول الاتحاد الأوروبي.
من ناحيتها، تحتاج المملكة إلى التعاون مع شركائها الدوليين كافة من أجل تحقيق حلم مدينة المستقبل «نيوم»، التي يراهن عليها الأمير محمد بن سلمان كثيراً كرافعة استراتيجية لمكانة المملكة ودورها العالمي في القرن الحادي والعشرين، كونها تمثل درة تاج مشروع التحديث السعودي 2030، والذي يحتاج إلى استثمارات وجهود ومشاركات دولية ضخمة كي يحقق الأهداف المرجوة، ولهذا فإن الرياض لا تنظر إلى تحركاتها الدولية من منظور الإحلال والتبديل في الشراكات، بمعنى أن تحل هذه الدولة مكان تلك أو تبديل أولويات الاهتمام في العلاقات الدولية، بل توسيع نطاق الشراكات اعتماداً على قاعدة التنوع من دون أن تأتي علاقات المملكة مع أي قوة دولية على حساب دول أو قوى أخرى، باعتبار أن ضخامة الاستثمارات والمصالح الاستراتيجية السعودية مع العالم باتت تتسع لكل الشراكات، بحيث لا يمكن بناء علاقات شراكة حصرية مع قوة دون الأخرى مهما كانت أهمية وتنوع هذه الشراكات، لأن طموحات القيادة السعودية باتت تتجاوز مسألة الشراكات الحصرية التقليدية، التي لم تعد تكفي لتحقيق هذه الطموحات في ظل انتشار مصادر التطور والتقدم واتساع دائرة المصالح المشتركة وتنوعها بما يفرض ضرورة بناء العلاقات السعودية على أسس جديدة تتوافق مع هذه الطموحات الواعدة.