تناولت تقارير إعلامية عدة نشرت في الآونة الأخيرة أسباب عدم مشاركة حركة "حماس" في المواجهات العسكرية التي جرت في قطاع غزة مؤخراً بين الجيش الاسرائيلي وحركة "الجهاد الإسلامي"، حيث أشارت بعض التقرير إلى ما وصفته بأسباب حالت دون مشاركة "حماس" ومنعتها من التدخل في القتال، منها الإزدهار الإقتصادي في القطاع نتيجة فترة الهدوء الأخيرة، أو ماتصفه بعض الأدبيات بسياسة الإقتصاد مقابل الهدوء، والمقصود بها تصاريح العمل التحفيزية التي يمنحها الجانب الاسرائيلي للفلسطينيين وتمثل دعماً كبيراً لإقتصاد غزة، وتركيز الحركة على إعادة بناء حاضنتها الشعبية التي تقلصت بسبب حجم الدمار الحاصل في القطاع جراء الأزمات المتوالية التي تسببت فيها الحركة المتطرفة، وهناك أيضاً رغبة قيادات "حماس" في إعادة بناء صورتها النمطية دولياً وإقليميًا والتركيز على العمل السياسي والدبلوماسي في إطار الصراع الداخلي سواء مع السلطة أو الحركات الأخرى.
وقناعتي الذاتية أن إرث الأزمات الفلسطيني لا يشير إلى إمكانية تلاقي الطرفين (حماس والجهاد) المتطرفتين على أرض معركة واحدة، رغم إنهما نتاج رحم واحد وهي جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، ناهيك عن أن "حماس" لم تستعد بعد قدرتها العسكرية على العمل وتوجيه ضربات جديدة ضد إسرائيل وهي التي خاضت العام الماضي حرباً تعرضت فيها لضربات إسرائيلية شديدة، فضلاً عن أن إدارة الحركة للقطاع يجعلها تدرك تماماً أن أي تصعيد في الوقت الراهن لن يلقى دعماً من الغزاويين الذين لم يداووا جراح المعركة الأخيرة بعد فضلاً عن أن هناك رغبة من أهالي القطاع في إستمرار الهدوء والعمل وإعادة الإعمار.
المعروف أن حركة "حماس" المتطرفة هي الحاكم الفعلي في قطاع غزة، وتدير القطاع من الناحية الواقعية، ولذلك فإن صمتها خلال التصعيد العسكري الأخير يطرح علامات إستفهام حقيقية، وقراءة مجمل أسباب امتناع "حماس"، التي تتحدث عنها التقارير الإعلامية الفلسطينية تحديداً، قد يفسر موقف الحركة ولكنه يثير الشكوك في نوايا حركة "الجهاد" المتطرفة والمنافسة لها في القطاع، وهل تعمدت الأخيرة استدراج القطاع لأزمة جديدة تقوض حصاد هدوء الفترة الماضية؟!
في كل الأحوال، وبعيداً عن التخمينات، بدا الإختلاف الكبير بين مصالح وأهداف حركتين متطرفتين تزعمان العمل تحت راية "المقاومة" الفلسطينية، رغم مايفترض عن وحدة الهدف والمصالح وغير ذلك، ما يشير في الأخير إلى أن المسألة برمتها صراع مصالح سياسي على السلطة والنفوذ والمكانة ولا مكان بين كل ذلك لمصالح الشعب الفلسطيني، التي لا يراعيها أي طرف حين يقرر الهدوء أو التصعيد سوى حين تتوافق هذه المصالح مع مصالح الحركة أو التنظيم، وبقدر توافق المصالح وتلاقيها تدور الحياة في القطاع المغلوب على امره هدوءاً وتصعيداً!
لم تكن المواجهات الأخيرة في قطاع غزة التي تكشف تباين الأجندات والأهداف والمصالح بين الحركات الفلسطينية، ففي كل دورات التصعيد السابقة كانت "حماس" تحتكر المواجهات مع الجيش الاسرائيلي لنفسها، وتكتفي الحركة المنافسة بالمشاهدة والمتابعة، وبالأمس تكرر الوضع والمشهد مع إختلاف الطرف الفلسطيني، حيث تصدرت حركة "الجهاد" الأخبار، مع غياب تام للحركة التي تسيطر على القطاع وتديره بحيث بدت وكأنها غير موجودة أو اختفت من على ظهر الأرض! حيث أكتفى قادتها بالإعراب عن التضامن من دون أي مشاركة حتى أن الأمر بدا وكأنه فرصة كل طرف للتعرف إلى حدود قدرات الطرف الآخر، بمعنى أن إدارة المواجهة مع إسرائيل ونتائجها باتت أحد أوراق اللعب الداخلي الفلسطيني، وهذا واقع يستحق التوقف عنده في حقيقة الأمر.
ماسبق يشير إلى أن مصالح الشعب الفلسطيني التي يتغنى بها كل من يتصدرون المشهد الفلسطيني ويتحدثون باسمه لا تتصدر أولويات هؤلاء القادة، فمسؤولي "الجهاد" كانوا يزورون إيران ولبنان في حين أن الدبلوماسية المصرية كانت تكثف جهودها لتخفيف وقع الضربات العسكرية الإسرائيلية التي تجددت على قطاع غزة، ولا يدري أحد ماهية النقاش بين ممثلي هذه الحركة الفلسطينية ونظرائهم في "الحرس الثوري" و"حزب الله" اللبناني، وكيف يعتقد هؤلاء أن بامكان إيران أو غيرها تقديم إسناد سياسي أو عسكري لهم في هذه الظروف والتوقيتات الجيوسياسية المعقدة!
ولهذا آن الآوان كي يكف الكثيرون من الفلسطينيين عن المتاجرة بالقضية والشعب الفلسطيني وأن يدرك هؤلاء أن لعبة التصعيد والتهدئة وفقاً لأهداف هذه الحركات والإملاءات التي تأتيها من داعميها الإقليميين، آن لها أن تتوقف، بانتظار من يبحث للفلسطينيين عن حقوقهم العادلة والمشروعة بشكل صادق ومخلص من دون ألاعيب "المقاومة" وادعاءات البطولة، وبعيداً عن حسابات الصورة الدعائية والمصالح التي لا تتباين فقط بين حركة وأخرى، بل بين قيادي وآخر داخل كل حركة على حدة.