تسببت أزمة أوكرانيا في تأثيرات عالمية عميقة في مختلف المجالات والقطاعات، ومنها قطاع الطاقة، حيث يربط المتخصصون بين ارتفاع أسعار الطاقة جراء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وبين التوجه العالمي المتزايد نحو ضخ إستثمارات جديدة في هذه القطاع الحيوي
بما يعني أن هناك معادلات جديدة تتشكل حول مستقبل الطاقة وموقع الوقود الأحفوري في أي خارطة طاقوية بديلة في ظل المتغيرات الجديدة، وهل يتواصل التوجه الخاص بتقليص الإعتمادية على هذا الوقود لمصلحة الطاقة الجديدة والمتجددة الصديقة للبيئة، أم أن عدم جاهزية البدائل بمعدلات ومستويات تكفي الطلب العالمي
، يمنح الطاقة التقليدية (النفط والغاز) آمالاً جديدة في الحياة والبقاء والإستمرار في صدارة التنافس العالمي على موارد الطاقة لسنوات وربما عقود إضافية يصعب توقع أمدها؟.
في تقرير صادر عن باحثين دوليين متخصصين بمجال التغير المناخي، قرأتُ تحذيرات قوية من المخاطرة بتداعي معدلات الإلتزام بخفض التلوث البيئي عالمياً، بينما وصف الأمين العام للأمم المتحدة انطونيو غوتيريش، وما وصفه بتسرع دول في الإعتماد مجدداً على الوقود الأحفوري كمصدر طاقة بديل بسبب الحرب الدائرة في #أوكرانيا بأنه "جنون" يهدد أهداف المناخ العالمية
وأشار إلى أن الإجراءات قصيرة المدى التي تعتمدها بعض الدول لاستبدال مصادر الطاقة الروسية قد "تغلق النافذة" أمام أهداف باريس المناخية.
المعضلة التي يراها غوتيريش وغيره هي أن خفض إنتاح الكربون إلى النصف بحلول نهاية العقد الحالي، قد ينقلب إلى إرتفاع نسبة الانبعاثات بواقع 14%، وهذا ما دفع الأمين العام للأمم المتحدة للقول مؤخراً أمام قمة الإستدامة الإقتصادية إن "المشكلة تزداد سوءاً"
بلا شك أنه لا يجب بناء تصور مستقبلي حول مجمل الوضع المناخي العالمي من خلال الإجراءات قصيرة المدى التي تتخذها بعض الدول ـ لاسيما الأوروبية ـ لخفض إعتمادها على #النفط والغاز الروسي، لأسباب وإعتبارات عدة
أولها أن هذه الإجراءات هي بطبيعتها حلول وقتية قصيرة المدى لضمان عدم توقف عجلة الحياة في هذه الدول
وثانيها أن الحاصل هو إستبدال وقود أحفوري بمثيله من موردين آخرين وبالتالي فالأمر بمجمله قد لا يكون له التأثير المتخيل على خارطة إستهلاك الطاقة التقليدية بشكل عام
ثالثها أن هذا الوضع سيسهم من دون شك في التعجيل بخطط الدول نحو رفع مستويات الإعتمادية على الطاقة البديلة وليس العكس، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى وقت سواء لإعداد الخطط وتمرير الموازنات اللازمة لذلك
لست مع الرؤية القائلة بأن إدمان الإعتماد على #الوقود الأحفوري يمثل تدميراً متبادلاً لكل الأطراف، لأن هذا "الادمان" ليس جديداً ولا عابراً ولم يكن نتاجاً للأزمة الأوكرانية، التي سببت قدراً كبيراً من الإرباك والإضطرابات في أسواق الطاقة العالمية
ولكنها بالتأكيد لم تنتج هذه المستويات المعتادة من الإعتمادية على الطاقة التقليدية لأن الوضع الراهن لا يرتبط بمعدلات الإستهلاك العالمية، ولكنه يرتبط أساساً بتغير خارطة السوق وعلاقات السوق
لاشك ان إستشعار الدول الأوروبية تحديداً للأخطار الجيوسياسية المترتبة على الإعتماد على مصدر واحد للطاقة، سيدفعها على المديين المتوسط والبعيد للبحث عن بدائل جديدة للوقود الأحفوري
هذا لا يعني بالضرورة تجاهل سياسات وخطط خفض الإنبعاثات الحرارية، وحلول أزمة التغير المناخي آنياً، بمعنى أن الظروف الأخيرة قد تكون ـ على الأرجح ـ محدودة التأثير على المناخ
ولكن تبقى المعضلة الأهم في تباين مستويات الإلتزام بسياسات خفض الإنبعاثات على المدى الطويل، ناهيك عن رفض العديد من الدول الإلتزام بالخطط الأممية في هذه الشأن بحلول عام 2030.
صحيح أن هناك توجه لبناء محطات جديدة للغاز المسال في دول غربية عدة ولكن هذه الخطط تبقى بمثابة بدائل حتمية قصيرة الأجل لحين نشر بدائل الطاقة المتجددة.
الأمر المؤكد أن حرب أوكرانيا قد أثبتت أن الوقت لا يزال طويلاً أمام مصادر الطاقة التقليدية، وأن التحول الكامل نحو الطاقة المتجددة يتطلب المزيد من الوقت والجهد
لا يزال العالم بحاجة إلى توازن بين تنفيذ أهداف الأجندة البيئية وبين الحفاظ على أسعار الطاقة من جهة، وبين ضخ الإستثمارات في الطاقة التقليدية وضمان مصالح المنتجين والمستهلكين على حد سواء من جهة ثانية
أسواق الطاقة العالمية تشهد تغيرات هيكلية كبيرة، العامل الرئيسي فيها حرب أوكرانيا التي غيرت قواعد اللعبة السوقية، وخلقت بيئة جيوسياسية ستؤثر في قطاعات عدة أهمها الطاقة
ولكن كل هذه الظروف ليست ثابتة بل ترتبط بظروف وجودها ويمكن أن تتغير كلياً أو جزئياً سواء في حال إنتهاء هذه الحرب أو توسعها جغرافياً أو إمتدادها زمنياً، وفي كل سيناريو من هذه السيناريوهات سيكون للوقود الأحفوي دور كبير سواء في توجيه بوصلة الأحداث أو دفع كلفتها الإستراتيجية.