السؤال عن قدرة الولايات المتحدة على ردع إيران في نهاية المطاف كان مثار تساؤل رئيسي لإحدى افتتاحيات صحيفة "وول ستريت جورنال"، التي طرحته في أعقاب الضربات الأمريكية التي استهدفت مواقع عدة تابعة لميلشيات تدعمها إيران في سوريا والعراق، واعتبرت الصحيفة أن هذه الضربات سبقها "ترويج أمريكي" غير مسبوق تاريخياً، على اعتبار أن مسؤولين أمريكيين ظلوا يعلنون على مدار أيام عن هجمات آتية لا محالة رداً على الهجوم الذي استهدف قاعدة عسكرية أمريكية في الأراضي الأردنية، وتسبب بمقتل ثلاثة جنود أمريكيين وإصابة نحو ثلاثين آخرين.
البحث عن إجابة على هذا التساؤل تبدأ من منطق الضربات الأمريكية نفسها، وحيث يمكن القول أن السؤال الأكثر الحاحاً هو: هل تهدف الولايات المتحدة إلى ردع إيران من الأساس؟ بمعنى ان التساؤل لا يجب أن يتمحور حول الفاعلية والقدر العملياتية لتحقيق هذا الهدف والبحث فيما إذا كانت الضربات قد حققته أم لا، ولكن يجب أن يركز على نوايا الإدارات الأمريكية المتعاقبة، التي تختلف استراتيجيات تعاملها مع إيران ولكنها تلتقي جميعها عند فكرة الرغبة في عدم نشوب مواجهة مباشرة مع إيران وانتفاء أي إرادة لردعها.
قراءة تفاصيل مايدور علناً ومن وراء الكواليس بين طهران وواشنطن يؤكد أن المسكوت عنه في هذه العلاقات المعقدة يفوق المعلن بمراحل، وأن هناك حرص متبادل بين الولايات المتحدة و إيران على ابقاء التوترات تحت السيطرة بشكل دائم، رغم محاولات كل طرف كسب نقاط استراتيجية على حساب الآخر. في ذلك يمكن الاشارة إلى أن معظم اهداف الضربات الأمريكية أو الإيرانية (التي توجهها إيران بشكل واضح كما حدث في استهداف قاعدة عين الأسد بالعراق رداً على اغتيال الجنرال قاسم سليماني)، تكون متوقعة في ظل التحذيرات المتكررة، التي تسبق هذه الضربات، وبالتالي فإن الخسائر البشرية وربما المادية تظل في إطار المقبول.
المعضلة تبدأ في هذه العلاقات حين يخرج أي طرف أصلي أو وكيل عن النص، ويقترب من الخطوط الحمر للطرف الآخر، كما حدث في استهداف القاعدة الأمريكية بالأردن، وكما حدث من قبل في اغتيال الجنرال قاسم سليماني بضربة أمريكية مفاجئة. ماسبق لا يعني أن الجانبين الأمريكي والإيراني يفهمان الرسائل المتبادلة بنفس الطريقة، وأنهما على على وفاق في إطار حرب باردة مصغرة، حيث لا مقارنة في موازين القوى العسكرية ناهيك عن القوة الشاملة للخصمين، والأقرب للتصور هو أن وفاق الضرورة، حيث تبادل المنافع الاستراتيجية من هذه الحالة. المغزى فيما سبق أن الولايات المتحدة كانت لسنوات طويلة بحاجة إلى سلوكيات النظام الإيراني كما نراها جميعاً، شريطة أن يظل داخل مربع عدم تهديد المصالح الاستراتيجية الأمريكية ولا يخرج عن نطاق السيطرة، ولكن ماحدث في الآونة الأخيرة، ان اتفاقات أبراهام قد غيرت قواعد اللعبة بالنسبة للجانب الإيراني، الذي بات يستشعر الخطر من عزلة إقليمية ربما تتطور إلى تحالف يضعها في بؤرة الاستهداف، في إطار ماهو معروف ضمناً من صراع بين جبهتي الاعتدال وما يعرف بـ"المقاومة" التي ترعاها إيران وتمولها في الشرق الأوسط.
على الصعيد الإيراني، نلحظ أن طهران تجد منذ عام 1979 في إشهار العداء مع الولايات المتحدة وإسرائيل فوائد استراتيجية عديدة، حيث تعد هذه الأيديولوجية جزءاً لا يتجزأ من شرعية النظام الثوري الإيراني، الذي يعيش طيلة تلك العقود بين مد وجزر يتمحور حول العلاقة مع الولايات المتحدة، ولم يحسم مطلقاً موقفه في هذا الشأن، ولكنه يبقى رغم كل أطر التعاون والتحالف مع قوى دولية اخرى مثل الصين وروسيا والهند، متمسكاً بالشعرة الرفيعة التي تبقي على الأمل في العلاقات مع واشنطن، فلا يقطع هذه الشعرة ولا يمدها، بانتظار حسم هذه القضية الجدلية داخلياً وفي شقها الأيديولوجي قبل الاستراتيجي.
الحاصل في هذه اللحظة أن خوف الجانب الامريكي من التصعيد العسكري المباشر مع إيران بات يوفق خوف الإيرانيين أنفسهم، وهذا الأمر ينتج موقفاً لا يصب بمصلحة الولايات المتحدة ويدفع باتجاه تشجيع وكلاء إيران على مواصلة استفزاز الجانبين الأمريكي والإسرائيلي، باعتبارهما وجهان لعملة واحدة من وجهة نظر هذه الأذرع الإرهابية الميلشياوية، وهذه الاستفزازات ليست بالضرورة نابعة من أوامر إيرانية مباشرة ولكنها لا تحيد مطلقاً عن استراتيجية متفق عليها مع قادة هذه الأذرع الإرهابية المؤدلجة، وحيث يدرك هؤلاء القادة أنهم يعملون في إطار المتفق عليه مع طهران، وليسوا بمنأى عنها، ولا يضرون بمصالحها، ويمكن فهم هذه التشابكات في ضوء تصور طبيعة هذه العلاقة المعقدة بين إيران ووكلائها، وليس أوضح على ذلك من بيان ما يعرف بالمقاومة الإسلامية في العراق التي اعلنت بعد الهجوم على القاعدة الأمريكية على الحدود الأردنية أنها جمدت ضرباتها ضد القوات الأمريكية، وهو أمر لا ينفك عن وصول تعليمات مشددة وعاجلة من طهران بأن توقفوا عما تفعلون لأن الشكوك وقتذاك قد اتجهت لرد فعل أمريكي كبير قد يستهدف الداخل الإيراني نفسه، ويضع طهران في موقف استراتيجي صعب للغاية أمام أنصارها ووكلائها. ماسبق لا يعني أن إيران لا تريد استدراج الولايات المتحدة للمستنقع الشرق أوسطي، بل هو هدف يقع في قلب خططها الاستراتيجية، ولكن شريطة ألا يتسبب تحقيقه في مواجهة مباشرة بين طهران وواشنطن، وأن تتورط الأخيرة في صراعات مفتوحة على امتداد مايعرف بجغرافيا المقاومة من اليمن للعراق وسوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية بعيداً عن طهران التي تكتفي بالدعم العسكري والتمويل المادي لحرب ترسم فيها ملامح المنطقة وربما العالم وفقاً لتصوراتها ومصالحها بعيدة المدى.
في مجمل الأحوال، فإن الشرق الأوسط مابعد جريمة السابع من أكتوبر لما يعد كما كان سابقه، والمشهد الجيوسياسي تغير تماماً، وهناك تحولات نوعية فارقة لم تزل ملامحها لم تتبلور بشكل كامل بعد، والفيصل في ذلك كله هو نتيجة الصراع المكتوم بين محوري الاعتدال و"المقاومة" التي تحاول توريط الولايات المتحدة في حرب مفتوحة قد تفتح الباب واسعاً أمام نهاية العصر الأمريكي.