سعي إيران الدائم لامتلاك قدرات نووية ليس بالأمر المفاجىء لأحد في منطقتنا والعالم، وامكانية "عسكرة" هذه القدرات وتحويلها من شقها التقليدي إلى أسلحة دمار شامل ليس بالأمر الطارىء بالنسبة للمتخصصين كذلك، وبالتالي قد لا تكون هناك مفاجأة كبيرة في محتوى التقرير الصادر مؤخراً عن معهد العلوم والأمن الدولي، والذي حذر من "التهديد النووي الإيراني"، وأشار إلى أنه باستخدام مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، والمخزون المخصب بنسبة 20% ، يمكن تصنيع (6) قنابل نووية خلال شهر واحد، و(12) قنبلة في غضون ستة أشهر، وتحدث التقرير عن تنامي التهديد الناجم عن البرنامج النووي الإيراني منذ مايو 2023، وتفاقم بسبب عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر 2023. ويرى التقرير أن الوضع المتوتر في المنطقة يوفر لإيران "فرصة فريدة ومبررا داخليا مضخما لامتلاك أسلحة نووية"، وأن قدرة الولايات المتحدة وإسرائيل على رصد تطورات البرنامج النووي الإيراني، ناهيك عن ردعه، قد تراجعت بشكل كبير.
التقرير تحدث عن دور الصراعات الشرق أوسطية في إهمال أو تراجع التهديد النووي الإيراني، وذلك رغم أن سيناريو امتلاك سلاح نووي بات احتمالاً حقيقياً، بما دفع المعهد إلى رفع مستوى "التهديد الإيراني" على مقياسه من 140 درجة في مايو 2023 إلى 180 درجة، معتبراً إياه يندرج ضمن فئة "الخطر الشديد" للمرة الأولى.
في تفاصيل التقرير المنشورة، لا أجد ما يلفت الانتباه، على الأقل بالنسبة للمراقبين والمتخصصين، والحديث عن امكانية رفع مستوى تخصيب اليورانيوم من 60% إلى 90% في غضون أسبوع واحد مسألة معروفة من فترة طويلة، لأن الأمر يتعلق بالقرار السياسي وحده في ظل توافر المعرفة التقنية والأجهزة اللازمة لذلك، ومن الصعب الرهان على إجراءات التفتيش والرقابة التي تنفذها الوكالة الدولية للطاقة الذرية في السيطرة على مثل هذه التوجهات بالنظر إلى سرية الكثير من المنشآت النووية الإيرانية، فضلاً عن عدم تواجد المفتشين بشكل مستمر بسبب الخلافات بين طهران والوكالة.
بلاشك أن الجميع بات رهن إرادة النظام الإيراني فيما يتعلق بامتلاك قدرات عسكرية نووية أم لا، فقد فشلت جميع جهود الإدارات الأمريكية المتعاقبة في لجم الاندفاع الإيراني نحو امتلاك برامج نووي متطور يمكن تحويله إلى برنامج عسكري وقتما قرر المرشد الإيراني الأعلى، الذي يتمسك ـ إعلامياً ـ بفكرة "تحريم" امتلاك "قنبلة نووية"، ولكن هناك دائماً مخرج "الضرورة" والتقية السياسية الذي يتيح التملص من هذا الالتزام الطوعي حينما يستشعر النظام الإيراني أن مصيره يواجه تهديداً حقيقياً.
في مناقشة احتمالية تحقق الظروف الممهدة للتحول النووي الإيراني، علينا الاتفاق على بعض النقاط الحيوية، وفي مقدمتها الفصل بين إيران الدولة والشعب وما يمكن أن تتعرض له من تهديد قد يضطر النظام للإقدام على هذه الخطوة، وبين التهديدات التي يستشعرها النظام ذاته، فالثانية أشد وأكثر تأثيراً على القيادة الإيرانية من الأولى، بمعنى أن تعرض ركائز بشرية مثل الحرس الثوري أو الصف الأول من قيادات النظام أو مؤسسية مثل المنشآت النووية الرئيسية، لأي تهديد كبير سيدفع المرشد الأعلى على الأرجح دفعاً لحماية النظام، مهما كانت العواقب.
ثمة نقطة أخرى مهمة، برأيي، تتعلق بإدراك القيادة الإيرانية لعوامل الخطر ومصادر التهديد في البيئة الاستراتيجية الاقليمية والدولية الراهنة، حيث يتزايد إحساس النظام الإيراني بالخطر، رغم حرص الولايات المتحدة الشديد على عدم تجاوز الخطوط الحمر في علاقات الخصمين، لأن أكثر ما يقلق طهران في الوقت الراهن هو مسار المواجهات الدائرة بين الأذرع الموالية الإرهابية لها في الأراضي الفلسطينية ولبنان واليمن والعراق وسوريا من جهة، وبين إسرائيل والولايات المتحدة من جهة ثانية، حيث تعكس المؤشرات ارتفاع منسوب التوتر بين إسرائيل و"حزب الله" اللبناني"، الذي يعد أهم ذراع إيران في الشرق الأوسط، كما أن هناك توجه دولي يتبلور بشأن مسؤولية إيران عن الفوضى والاضطرابات التي يعانيها الشرق الأوسط، مع ما يستوجبه ذلك من محاسبة إيران أو العمل على لجم دورها في هذا الشأن.
في مجمل الأحوال، لم يعد من الممكن لإيران التنصل من فوضى الضربات الصاروخية وعمليات المسيرّات التي يطلقها ما يعرف بـ"محور المقاومة"، وبالتالي عليها أن تتوقع رد فعل مضاد من إسرائيل بالدرجة الأولى والولايات المتحدة بدرجة أقل، وهو سيناريو يمكن أن يتحقق في حال توافر الظروف الملائمة، سواء بعد انتهاء إسرائيل من الحرب في قطاع غزة ومعالجة الأزمة الأمنية مع "حزب الله" على حدودها الشمالية وطمانة سكانها في الشمال والجنوب للعودة إلى ديارهم، أو انتهاء عام انتخابات الرئاسة الأمريكية، حيث تتحسب طهران جيداً لوجود امكانية كبيرة لوصول الرئيس السابق دونالد ترامب للسلطة مجدداً.
في مجمل الأحوال، فإنه بجانب الصراع الاستراتيجي المحتدم في الشرق الأوسط، بين محور الاعتدال الذي يضم دولاً خليجية وعربية عديدة، وما يعرف بمحور المقاومة الذي يضم إيران وأذرعها الطائفية والميلشياوية الإرهابية، هناك كذلك سباق زمن مواز تخوضه طهران للحفاظ على نفوذها ومكاسبها الاستراتيجية التي راكمتها طيلة السنوات الماضية، من خلال تعزيز قدرة وكلائها على البقاء، وتحييد الأطراف الاقليمية المؤثرة، والحيلولة دون عزل طهران إقليمياً، وهي في مجملها أهداف يتوقف تحقيقها على نتائج مايحدث حالياً من حروب وصراعات متفرقة على الرقعة الجيواستراتيجية الشرق أوسطية، فضلاً عن عوامل أخرى مؤثرة بدرجات متفاوتة مثل تنامى الثقة الذاتية لدول المنطقة وقدرتها على التعامل مع مصادر التهديد والتعامل معها، فضلاً عن انحسار الثقة في قدرات الردع الأمريكية التي أصبحت في أدنى منسوب لها منذ سنوات وعقود، وحيث يتنامى الدورين الصيني والروسي ويوفران بدائل جديدة لشراكات استراتيجية لدول المنطقة.