هناك تقديرات بأن إيران ووكلائها الإرهابيين في منطقة الشرق الأوسط يدفعون باتجاه حدوث صراع إقليمي واسع النطاق، وأن هذا الصراع يصب في مصلحتهم ويحقق الأهداف الاستراتيجية لإيران، وربما الصين وروسيا كذلك. الحقيقة أنه يجب التفرقة بين تحقق أهداف ما يعرف بمحور المقاومة بقيادة إيران وهي الأهداف ذاتها التي يمكن أن تصب في مصلحة الخصوم الاستراتيجيين الدوليين للولايات المتحدة مثل الصين وروسيا، وبين كيفية تحقيق هذه الأهداف، حيث يبدو التعارض واضحاً بدرجة كبيرة، وحيث لا يمكن بناء تقديرات متماسكة حول رغبة النظام الإيران في خوض صراع مباشر مع الولايات المتحدة أو إسرائيل.
التقديرات بشأن الغضب الإيراني ترتبط أساساً بتسارع وتيرة استهداف وكلاء إيران الإقليميّين، الذين توجه لهم القوات الأمريكية والجيش الإسرائيلي ضربات قوية في سوريا والعراق، ولكن علينا الانتباه إلى أن طهران لا تبالي بخسائرها البشرية في العمليات المضادة، مهما كانت مكانة وأهمية المفقودين في هذه الخسائر، حيث تبقى الأولى دائماً لبقاء النظام الإيراني والحيلولة دون تعريض مصيره للخطر بشكل مباشر، ولو أن طهران يمكن أن تغضب وترد بشكل قوي على العمليات المضادة التي تشنها الولايات المتحدة أو إسرائيل لقامت بالرد على اغتيال الجنرال قاسم سليماني قائد الحرس الثوري، الذي اكتفت طهران بالاحتفاظ بالرد على اغتياله في الوقت والمكان المناسبين وقامت بعمليات محدودة لحفظ ماء الوجه دون الانتقال إلى رد كبير يناسب أهمية سليماني الذي يمثل أحد أركان النظام، حتى أن بعض قادة الحرس قد اعتبروا الهجوم الدموي لحركة "حماس" الإرهابية ضد إسرائيل في السابع من أكتوبر 2030 جزءاً من الانتقام لمقتل سليماني، وهو التصريح الذي سارعت إيران للتنكر له لاحقاً رغم أن قائله هو المتحدث الرسمي باسم الحرس الثوري، أي رجل يعرف جيداً ما يقول ومتى وبأي أسلوب، ولهذا فإن التصريح كان ينطوي على الأرجح على رسالة أرادت طهران إبلاغها لمن يهمه الأمر على أن تبادر لنفيها بعد التيقن من وصولها للعنوان المقصود، وهو تكتيك معروف يستخدم في مثل هذه الظروف.
إيران تنظر للصراع الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وإسرائيل باعتباره صراع بعيد المدى، وأن خيار المواجهة المباشر ليس من بين الخيارات المطروحة على طاولة اتخاذ القرار على هذا الصعيد، وهذا أمر محسوم، حيث تدرك طهران جيداً أن الصراع العسكري المباشر ليس في مصلحتها ويصعب أن تحقق فيه أي إنجاز عملياتي ملموس، على عكس الصراعات غير التقليدية، التي تراهن عليها إيران في استنزاف قدرات الجيشين الإسرائيلين والأمريكي.
الحرب بالوكالة التي تراهن عليها إيران يمكن أن يتسبب ايضاً في القضاء على الأذرع الميلشياوية الإرهابية الإيرانية كلياً أو جزئياً، حيث يرجح أن تستطيع إسرائيل القضاء على معظم القدرات العملياتية لحركة حماس الإرهابية في نهاية الحرب الدائرة في غزة، ويمكن أن تستدير لتحييد التهديد القادم من "حزب الله" اللبناني، حتى يمكن لها تأمين الجبهة الشمالية، وإعادة سكان هذه المناطق إلى ديارهم، وهذا مايفسر الحرص البالغ الذي تتسم بها تصرفات "حزب الله" منذ بداية الحرب في غزة، حيث يبقى دوماً على خيط رفيع بين الفعل والتصعيد الذي يتطلب رداً إسرائيلياً واسعاً، حيث يدرك الحزب أن إسرائيل قد حسمت موقفها بشأن القضاء على التهديدات الآتية من الشمال والجنوب، وأن التصعيد سيوفر لها ذريعة قوية للاستدارة باتجاه الشمال في الساعة التالية لانتهاء حرب غزة، وقد أشار قادة إسرائيليين إلى الدمار الحاصل في قطاع غزة باعتباره المصير المحتمل للمناطق اللبنانية في حال لم يتراجع الحزب عن تهديد أمن إسرائيل.
"حزب الله" هو أهم وأقوى الأذرع الإيرانية الإرهابية في الشرق الأوسط، وعليه تقع رهانات استراتيجية إيرانية محورية في سوريا ولبنان وعلى صعيد ردع إسرائيل وابتزاز الغرب ضمن أوراق اللعبة المعقدة التي تمتلكها إيران في إطار العلاقات المعقدة مع الولايات المتحدة وحلفائها الأطلسيين. وبالتالي فإن من المستبعد أن تغامر إيران بالزج بحزب الله تحديداً في معركة تدرك جيداً أنها لن تكون كحرب غزة، بل ستنضم إليها أطراف أخرى من حلفاء إسرائيل، وبالأخص الولايات المتحدة، فضلاً عن كونها لن تحظى إقليمياً ودولياً بالتعاطف والدعم الذي يحظى به سكان قطاع غزة، لاعتبارات وأسباب تتعلق بوضعية الحزب وطبيعته كقوة خارجة عن سيطرة الدولة اللبنانية وتعمل وفق أجندة مخالفة للمصالح الاستراتيجية لهذه الدولة ولا تنكر انتمائها ولا عملها ضمن محور يخالف قناعات لبنان واللبنانيين حكومة وشعباً.
نعتقد أن سلوك حزب الله اللبناني هو المؤشر الأهم لنوايا إيران وقيادتها تجاه إسرائيل، ورغم أن ميلشيا "حزب الله" قد صعدت صاروخياً بشكل محسوب ضد إسرائيل في الآونة الأخيرة، بزعم القيام بـ"رد أولى" على اغتيال صالح العاروي القيادي بحركة "حماس" الإرهابية على الأراضي اللبنانية، فإن من الصعب اعتبار هذا التصعيد انعكاساً لتوجه نحو تصعيد شامل، والأرجح أنه محاولة لوضع قواعد جديدة للعبة وردع أي عمليات إسرائيلية محتملة لتكرار عملية اغتيال قيادات إرهابية أخرى سواء من الحركات الفلسطينية أو من حزب الله نفسه، بمعنى أن ما يحدث الآن هو لعبة عض أصبع حساسة للغاية بين إسرائيل ووكلاء إيران بتوجيه ورعاية مباشرة من طهران، حيث بات "حزب الله" على ثقة بأنه الهدف التالي لإسرائيل عقب الانتهاء من مهمة القضاء على حماس الإرهابية في قطاع غزة، وأن إزالة خطر "حزب الله" تحظى بالأولوية ذاتها التي تحظى بها حركة حماس الإرهابية، ولذلك يمكن اعتبار ردع هذا التفكير الذي يسيطر على حكومة نتنياهو بشكل استباقي ضمن أهم أهداف التصعيد المحسوب لميلشيات حزب الله في الشمال، رغم أن الظاهر يدور حول الانتقام لاغتيال العاروري.
بلاشك أن إيران لن تغامر ـ على الأرجح ـ بدفع "حزب الله" إلى مواجهة أوسع مع إسرائيل، فمثل هذا القرار يمثل بالفعل مغامرة معروفة النتائج بكل "استثماراتها" في بناء ونشر هذه الأذرع الإرهابية منذ عقود وسنوات طويلة مضت، وقد تكون هذه المواجهة هي الاخيرة التي تقضي نهائياً على هذه الأذرع الإرهابية ، بكل ما يعنيه ذلك على نفوذ إيران ومكانتها الاقليمية والدولية التي تستمد قدر كبير منها من توظيف ممارسات وكلائها وقدرتهم على نشر الفوضى والاضطرابات في الاقليم.