في الأزمات المتصاعدة، والتي تنذر بنشوب صراعات إقليمية أو دولية كبرى بالنظر إلى تداخل أسبابها وتعقد خلفياتها ودوافعها كما هو الحال بالنسبة لما يحدث في غزة، يفترض أن تضطلع القوى الإقليمية بأدوار مسؤولة تسعى من خلالها إلى تهدئة الأوضاع وتبريد الأجواء، ولكن ما تفعله إيران في هذه الأزمة ابتداء من دورها في التخطيط والتدبير لتفخيخ وإشعال الوضع بين حركة "حماس" الإرهابية، والإسرائيليين، وانتهاء بمواصلة التحريض على التصعيد والتهديد الدائم بتدخل وكلائها المنتشرين في دول عدة بالمنطقة في الصراع الدائر بغزة، يعكس الوجه الحقيقي لهذا النظام الذي يقتات منذ تأسيسه في عام 1979 على الأزمات، ولا يمكن له أن يعيش وسط أجواء إقليمية ودولية هادئة ومستقرة.
يدرك كل متخصص ومراقب أن العقيدة القتالية الإيرانية تقوم على خوض الحروب بالوكالة، ولذلك فقد سخر النظام الإيراني الكثير من موارد البلاد لتشكيل وتمويل وتسليح ميلشيات طائفية في دول ومناطق عدة، من اليمن جنوباً حتى لبنان شمالاً، ويعتمد في ذلك على شبكة من العلاقات والولاءات الأيديولوجية مع تنظيمات وجماعات متطرفة وإرهابية مثل "الحوثيين" و"حزب الله" والتنظيمات والفصائل الشيعية المسلحة في العراق، كما يمتلك علاقات وروابط تنظيمية مع جماعات يقف معها على أرضية مشتركة مثل حركة "حماس" الفلسطينية.
بعيداً عن العواطف في لحظة تاريخية تستوجب تحكيم العقل والحكمة حقنا لدماء الأبرياء والمدنيين، فإننا نعتقد أن من غير المنطق أن تتردد اتهامات لبعض القوى الغربية بأنها شريكة في المسؤولية عن الدماء التي تسيل على الجانب الفلسطيني، من دون توجيه الاتهام ذاته لمن خططوا ودبروا لـ "حماس" الهجوم الدموي والإرهابي الذي شنته ضد إسرائيل وتسبب في إشعال الصراع الحالي، فدماء الأبرياء التي سالت سواء كانت على الجانب الإسرائيلي أو الجانب الفلسطيني تملي على كل ذي ضمير انساني أن يتبنى موقفاً يرتقي فيه اخلاقياً بعيداً عن مشاعر الثأر والانتقام التي لا يمكن لها أن تكون مدخلاً للحديث عن الأزمة الراهنة، والمعنى هنا أن إيران أيضاً مسؤولة عن دماء الضحايا من الأبرياء على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ومسؤولة من كل هذا الخراب والفوضى التي تعم منطقة الشرق الأوسط منذ السابع من أكنوبر الماضي ولا أفق ـ حتى الآن ـ لنهاية وشيكة له.
اللافت أنه في الوقت الذي تتفادى فيه الإدارة الأمريكية توجيه أي اتهام مباشر لإيران بالمسؤولية عما يحدث في غزة، نجد المرشد الإيراني الأعلى علي خامنئي يتهم واشنطن بشكل صريح بأنه "شریكة في الجرائم" في غزة و"تدير بطريقة ما هذه الجرائم"، وهذا يبعث برسالة قوية للولايات المتحدة والجميع كذلك، بأن ترددها في حسم المواقف سواء بدافع الابقاء على خيوط رفيعة واهية مع طهران، أو بدافع تفادي ما يترتب على أي اتهام أمريكي رسمي لها، وحيث لا يرغب الرئيس جو بايدن في توسيع جبهة الصراع واستهداف إيران أو حتى الرد على أي سلوك عنفي لها.
ونقولها صريحة أن تردد الإدارة الأمريكية منذ سنوات طويلة مضت في التعامل مع التهديد الإيراني هو أحد أسباب الوضع المشتعل في غزة، ولولا أن هناك يقين لدى طهران بأن البيت الأبيض لن يخوض صراعاً مباشراً معها مهما حدث، لم تكن إيران لتتمادى في سلوك التحدي الذي عبر عنه رئيس هيئة الأركان الإيرانية محمد باقري بتحذيره من أن استمرار الهجمات الإسرائيلية على الفلسطينيين مع دعم إسرائيل من قبل دول أخرى قد يؤدي إلى "دخول لاعبين جدد للساحة"، ولم يكن هذا التحذير عسكرياً فقط بل ورد كذلك سياسياً على لسان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان الذي حذر من أن الوقت ينفد لجهة "إيجاد حلول سياسية" قبل أن يصبح "إتساع" نطاق الحرب بين إسرائيل وحماس "حتميا"، وهي تحذيرات تعني أن وكلاء طهران الاقليميين جاهزون للانخراط في جبهة قتال واسعة وإشعال الشرق الأوسط بأكمله!
تبدو الأمور واضحة للغاية حين يُنصّب وزير الخارجية الإيراني نفسه متحدثاً باسم وكلاء بلاده من الجماعات والتنظيمات والميلشيات الإرهابية المختلفة، ويقول إن الحزب قد وصل إلى مستوى من القوة أجبر الأميركيين على إرسال عشرات الرسائل له مطالبين بعدم فتح جبهة ضد إسرائيل، ويؤكد أن "المقاومة في فلسطين في أحسن حالتها".
الآن سقطت الأقنعة ولم يعد هناك مفر لأحد سوى تسمية الأمور بمسمياتها الحقيقية فلا مجال للتخفي والتستر وراء أي ذرائع، فإيران لا تريد لمنطقتنا أمناً ولا استقراراً وطغيان فكرة "المقاومة" سواء ضد إسرائيل أو ضد الولايات المتحدة، ومنحنى تصعيد إيران ومحورها الاقليمي، يتصاعد في ظل بيئة عالمية تعاني الانقسام والتشرذم والصراع القطبي الحاد الذي يغذي التوجه الإيراني ويتغذى عليه ويستفيد منه.