من المؤسف القول بأن ما يحدث حالياً في قطاع غزة يعيد الكرة في الشرق الأوسط إلى الوراء، ويقوض جهود السنوات القليلة الماضية من أجل إحلال السلام والاستقرار ونشر ثقافة التعايش، ولكن الأخطر من هذا كله أن الأحداث الراهنة تمثل نجاحاً تكتيكياً ـ لو قصير المدى ـ لاستراتيجية إيران القائمة على نشر الفوضى والاضطرابات وترسيخ الطائفية والتشدد والتطرف والإرهاب.
الشرق الأوسط كان يقف منذ نحو ثلاث اسابيع على عتبات مرحلة فارقة في تاريخه، حيث كانت التوقعات تشير إلى قرب توقيع اتفاق سلام بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، ولكن علينا أن نعترف أن هذه الخطوة التي كانت بمنزلة منعطف تاريخي يضع قواعد جديدة للعبة الإقليمية، لم تكن تحظى بارتياح إيراني من أي نوع، وهذا يفسر جانباً كبيراً مما يدور من حولنا.
قد يقول قائل أن التخطيط لهجوم الدموي الذي نفذته حركة "حماس" الإرهابية ضد إسرائيل قد سبق ذلك بأشهر طويلة في ضوء حجم العملية ودقتها، وبالتالي فإن المسألة لا علاقة لها بالإعلان السعودي الرسمي الوارد على لسان ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مؤخراً بشأن قرب توقيع إتفاق سلام مع إسرائيل، ولكن تحليل الواقع يقول إن المفاوضات بشأن توقيع إتفاق سلام بين المملكة وإسرائيل قد بدأت منذ فترة طويلة أيضاً، وأن الجانب الأمريكي كان يحث الرياض على هذه الخطوة منذ أكثر من عام، وطهران لديها علم بهذه التطورات وتفكر في كيفية الإجهاز عليها استباقياً ولكنها لم تجد إلى ذلك سبيلاً سوى تفجير الشرق الأوسط بأكمله، ولا نبالغ إن قلنا أن التغير الحاصل في الموقف الإيراني من التقارب مع دول الجوار الخليجي ربما لم يكن سوى مناورة سياسية استهدفت الحيلولة دون قيام أي تحالف أو تعاون استراتيجي إسرائيلي مع الدول الخليجية المؤثرة وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية.
قناعتي أن "حماس" دٌفعت دفعاً لتنفيذ مخطط إيراني يعيد "هندسة" الشرق الأوسط ويستبق أي خطوات لاستكمال حلقات تطبيع العلاقات بين إسرائيل وجيرانها العرب والخليجيين، بما يعنيه ذلك من عزل فعلي لإيران، لاسيما في ظل الإعلان عن مشروع الممر الاقتصادي الذي يربط بين الهند وأوروبا مروراً بدول مجلس التعاون وإسرائيل.
السؤال الآن: هل حققت إيران هذا الهدف الاستراتيجي الحيوي الآني قصير المدى؟ الإجابة هي نعم للأسف، حيث اشتعل الوضع إقليمياً ولم يعد الحديث عن السلام قائماً لفترة يصعب توقع مداها الزمني، بل إن وجود هذا النقاش من عدمه بات مرهوناً بما سيحدث على أرض الواقع في غزة خلال الأيام المقبلة، حيث حُشر الجميع إقليمياً في زاوية حرجة بفعل مخطط إيراني خبيث نٌفذ بدقة شديدة، ووضع الجميع في موقف لا يحسدون عليه، حتى أن علاقات سلام مستقرة بين طرفين مثل مصر وإسرائيل قد تعرضت لاختبار صعب بسبب وضعية معبر "رفح" وقلق مصر والعرب جميعاً من تهجير سكان غزة خارج أراضيهم بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات وتبعات استراتيجية يتوقع أن يدفع فاتورتها الجميع بما فيهم إسرائيل نفسها.
في ضوء ماسبق، لم يكن إعلان المملكة العربية السعودية عن تعليق محادثات السلام مع إسرائيل مفاجئاً، فالمملكة العربية السعودية هي الدولة العربية والخليجية الأكثر تأثيراً في واقع الأمر، وتقع على كاهلها مسؤولية كبرى تجاه القضية والشعب الفلسطيني. وتجد الرياض تجد نفسها في مواجهة موقف بالغ الحساسية والحرج في ظل ما يتعرض له المدنيين الفلسطينيين، حيث يصعب أن تقف المملكة بكل ما لديها من ثقل ومكانة روحية ودينية واستراتيجية في العالمين العربي والإسلامي صامتة في ظل الأحداث المتسارعة، حيث تدرك القيادة السعودية جيداً مدى حساسية المشهد الراهن، وكيف يمكن أن تكبر كرة الثلج المتضخمة بشكل غير متوقع لتطال الجميع إقليمياً.
ماذا يعني تعليق المحادثات بشأن تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، يعني أولاً أن إدارة الرئيس بايدن لن تفوز بهذا الهدف الذي سعت إليه طويلاً لتعويض فشلها في إدارة جميع ملفات السياسة الخارجية الأمريكية طيلة سنوات رئاسته، كما يعني أن إسرائيل نفسها قد انحرفت عن المسار الذي كانت تمضي فيه لبناء تعاون اقليمي واسع يحقق لها الأمن والاستقرار، وبلاشك أن الأطراف جميعها قد دٌفعت دفعاً لهذا السيناريو البائس، ووجدت نفسها أمام هامش مناورة ضئيل للغاية.
إيران حشرت الجميع في زاوية حرجة كما أشرت سالفاً، فلا إسرائيل كانت تمتلك أي هامش مناورة أو خيار بديل للتصرف والرد على أحد أسوأ الهجمات الدموية التي تعرضت لها من نشأتها، والأطراف العربية كذلك وجدت نفسها أمام خيارات صفرية أو بالأصح منعدمة، فلقد باغت الهجوم "الحمساوي" الخبيث والصادم الجميع بغض النظر عما يعلن من دوافع ومبررات، ولكن المعضلة تكمن في أن الجميع أيضاً وقعوا في أسر السيناريو الإيراني وتحولت الدول الاقليمية والقوى الكبرى فجأة إلى رهائن بيد مخطط مُحكم نستغرب أن أحداً من كل هذه الأجهزة الاستخباراتية لم يتوقعه ولم يفكر فيه أو حتى يتحسب له!
هل انتهى صراع المخططات، وهل باتت الغلبة لإيران في إعادة هندسة الخارطة الجيواستراتيجية الشرق أوسطية؟ بلاشك أن من المبكر الجواب على هكذا تساؤلات فاللعبة لا تزال في بدايتها، وإذا كانت إيران قد امتلكت المبادرة واستبقت الجميع فمن الصعب توقع إسدال الستار على ما يحدث وإعلان نهاية المباراة الاستراتيجية المحتدمة، فلا تزال لأطراف كثيرة مواقف وتحركات، ولا تزال الأيام وربما الأسابيع المقبلة حبلى بالمفاجآت، وعلينا أن نتذكر أن تحقيق الأهداف قصيرة المدى لا يعني بالضرورة ضمان النصر بالنهاية، وأن الفوز بمعركة لا يعني الفوز بالحرب.