كنا دائماً نقول أن العبرة في السياسة الخارجية الإيرانية هي بالأفعال لا بالأقوال، وأن التصرفات على أرض الواقع هي خير تعبير عن نوايا النظام الإيراني، ومع ذلك علينا أن نُبقي على الخيط الرفيع الذي يشير إلى أن ثمة أخطاء في بناء المواقف والسياسات، وثمة تباينات ورواسب داخلية تحتاج إلى وقت للتخلص منها، فضلاً عن السيناريو الأهم ـ برأيي ـ وهو أن هناك من داخل النظام الايراني من لا يزال غير مقتنع بنهج البراجماتية الذي اعتمدته طهران إزاء فتح صفحة جديدة قائمة على التعاون وتلاقي المصالح بينها وبين جيرانها من دول مجلس التعاون.
هناك شواهد سياسة عديدة على وجود تناقضات بين الأفعال والأقوال في السلوك السياسي الإيراني حيال التقارب مع دول "التعاون" ومنها زيارة وزير الداخلية الايراني أحمد وحيدي عدداً من الحقول النفطية ومن بينها حقل "الدرة" (أكدت المملكة العربية السعودية والكويت مراراً أن هذا الحقل ملكية حصرية مشتركة بين البلدين)، وهي زيارة وصفتها صحيفة "القبس" الكويتية بأنها "تصعيد استفزازي"، وبغض النظر عن فكرة الاستفزاز وهي ممارسة قائمة ومتكررة فعلياً في زيارات مماثلة لمسؤولين إيرانيين آخرين للجزر الإماراتية الثلاث المحتلة (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبوموسى على سبيل المثال، فإننى لا أدرى ـ شخصياًـ مغزى زيارة وزير داخلية إلى حقول نفطية وماهي الرسالة التي يمكن فهمها من هذه الزيارة التي لا جدوى منها سوى استفزاز الآخرين.
ماسبق من ممارسات سياسية قد لا تنتشر جماهيرياً مثلما ينتشر أي موقف أو موضوع يتعلق بلعبة جماهيرية في شعبية كرة القدم بالتأكيد، وهو ماحدث بالفعل حين رفض نادي اتحاد جدة السعودي خوض مواجهة سباهان أصفهان الإيراني على استاد جهان بأصفهان ضمن بدولة دوري أبطال آسيا، بسبب وجود تمثال للجنرال قاسم سليماني قائد الحرس الثوري السابق، في مدخل ملعب المباراة، وهنا لا ندري أيضاً مغزى وجود تمثال لقائد تنظيم عسكري ميلشياوي راحل في ملعب لكرة القدم (!).
فكرة وجود تمثال بملعب كرة قدم هي فكرة غريبة بحد ذاتها، فقد اعتاد الناس في دول عدة على وضع صور للقادة والرؤساء في مدرجات الجماهير وفي صدارة الملاعب، ولكن وجود تمثال لقائد عسكري ليست من الممارسات المعتادة في الملاعب الرياضية، ناهيك عن أن هذا الجنرال الراحل هو قائد ميلشيا ارتبطت بجرائم عديدة ارتكبت ضد منشآت سعودية حيوية وكذلك الاعتداء على سفارة المملكة في طهران عام 2016 ، مايجعل الموقف مستفزاً لمشاعر اللاعبين والشعب السعودي بشكل عام، ناهيك عن كونه خلط فج بين الرياضة والسياسة وتحويل لعبة كرة القدم التي يمكن أن تكون جسراً بين الشعوب وداعماً للتقارب بينها، إلى مصدر خلاف وتنافر وتجاذب ومهاترات سياسية لا نهاية لها.
الشواهد تقول أن هناك أجواء جديدة في فضاء العلاقات السعودية ـ الإيرانية، بل إن هناك حديث رسمي إيراني عن توجه لالغاء التأشيرات، وهناك صور منشورة لمسؤول إيراني يحضر احتفال السفارة السعودية باليوم الوطني للمملكة ويشارك مسؤوليها رقصة "العرضة" الشعبية السعودية الشهيرة، وهناك بالمقابل توجه سعودي معلن لفتح صفحة جديدة قائمة على حسن النوايا والتعاون بما يحقق مصالح الشعبين الجارين، ولكن كل هذه الشواهد لم تفلح في اختبار للنوايا على استاد "أصفهان"، وحيث لا يمكن الادعاء بأن مسؤولي النادي أو الاستاد الإيراني لا يدركون أن "التمثال" يمكن أن يستفز مشاعر الضيوف السعوديين في توقيت تخطو فيه العلاقات الرسمية أولى خطواتها بعد المصالحة!
الجانب الإيراني يبرر موقفه بأن الملعب المذكور تم تأسيسه قبل عامين ونصف بموافقة وترخيص كل الجهات الدولية والقارية بنفس الشكل والتصميمات، أي بوجود تمثال الجنرال قاسم سليماني، وهذا أمر لم يشكك فيه أحد ولكن المشكلة ثارت لأن الطرف الثاني في المبارة هو ناد سعودي استشعر لاعبوه الغضب في ظل وجود تمثال لرجل ارتبط اسمه بالاعتداء مراراً على سيادة بلادهم.
اللافت في ردود الفعل الايرانية أن المسؤولين الايرانيين لم يعترفوا بخطأ الخلط بين السياسة والرياضة ولم يتفهموا مشاعر أعضاء الفريق السعودي الضيف، بل خرج حسين شريعتمداري ممثل المرشد الأعلى علي خامنئي ليطالب بمنع النادي السعودي من دخول إيران مرة أخرى (!) بل وهاجم موقف وزير خارجية بلاده حسين عبد اللهيان الذي سارع للاعلان عن اتفاق مع الجانب السعودي على اقتراح بشأن إعادة المبادرة وطرح الأمر على الاتحاد الآسيوي لكرة القدم، وكتب شريعتمداري المعروف بتشدده في صحيفة "كيهان" قائلاً إن "وزير الخارجية تسرع في إعلان رأيه حول المباراة، كيف يقترح إعادتها، حيث غادر فريق الاتحاد الملعب بداعي وجود التماثيل السياسية لذا فهو لا يستحق إعادة المباراة بل يجب منعه للأبد من الحضور إلى إيران واللعب مع الفرق الإيرانية سواء في إيران أو في أي مكان في العالم"!
ما نفهمه من هذا التباين الايراني ـ الإيراني أن هناك داخل النظام الإيراني نفسه من لا يرضيه التقارب بين الجارتين، أو أنه لايزال يتمسك برؤية قائمة على فرض الرأي وممارسة الهيمنة على دول الجوار، ويرفض أي علاقات قائمة على الندية وحسن النوايا، ما يعني أن هذا الموقف قد كشف وجود تناقضات إيرانية داخلية بشأن العلاقة مع دول الجوار رغم أن وكالة تسنيم الايرانية نفسها قد أشارت إلى أن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان قد تحادث هاتفياً مع نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان ووجه له دعوة لحضور أول إحدى المباريات في المملكة العربية السعودية، ما يعني حرص مسؤولي المملكة العربية السعودية على تنقية الأجواء وإزالة أي رواسب أولاً بأول إعمالاً للاتفاق الثنائي على طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة في علاقات البلدين، ولكن مايحدث على أرض وما تشير إليه التقارير الإعلامية من انتشار ملصقات وصور وشعارات استفزازية ترتبط بموضوع التمثال في أنحاء طهران قبل المباراة يثير الشكوك حول الاتجاهات الحقيقية للسياسة الايرانية.
بلاشك أن إيران يجب أن تدرك ان ملاعب كرة القدم ليست لاستعراض "بطولات" مزعومة لقادة الميلشيا ونشر تماثيلهم، بل للتنافس الرياضي الشريف الذي يتنافر تماماً مع سير أصحاب هذه التماثيل، وأن تتخلص من هواجس الهيمنة على جوارها الاقليمي وتدرك حقيقة مبدأ حسن الجوار والسيادة الوطنية للدول، وتكف عن محاولة ممارسة الوصاية على غيرها من الدول وأن تدرك أن العالم يتغير من حولها، وأن اليوم يختلف عن الأمس، وأن تطبيع العلاقات مع الدول شأن سيادي تمارسه الدول كيفما شاءت ومتى أرادت، ولها ان تراه كيفما أرادت ولكن من دون أن تمارس التحريض والتدخل الفج في شؤون الآخرين، وأن تدرك أن الرهان على تحريض الشباب هو الرهان الخاسر وليس التطبيع مع إسرائيل أو غيرها.