في ذكرى وفاة مهسا أميني، تابعت بعض التقارير الإعلامية الغربية التي تتحدث تحول نسبي في سياسات النظام الإيراني تجاه تطبيق قواعد إرتداء الحجاب، ونقلت هذه التقارير بعض المشاهد التي وصفتها بأنها نوع من التمرد المعلن على شرطة الأخلاق، التي باتت تتعرض لتحديات كثير في أداء مهامها من جانب كثير من النساء اللاتي يتجولن في شوارع طهران من دون حجاب ويرتدين الجينز الممزق بحسب ما نقلت التقارير. هذا "التمرد الجرىء" من جانب الايرانيات يأتي بعد عام من وفاة مهسا أميني أثناء احتجازها من جانب شرطة الأخلاق التي وجهت لها تهمة عدم ارتداء الحجاب بشكل لائق.
انتهت الاحتجاجات الشعبية في إيران ولكن حالة الغضب لم تتراجع بشكل تام وبقيت تحت الرماد، وما ترصده التقارير الإعلامية من سلوكيات تتحدى القوانين هي حد أدنى يسمح به النظام للتنفيس عن حالة الغضب وترويضها والرهان على عنصر الوقت في تحقيق ذلك، ولكن من الصعب فعلياً القول بأن وجود نسبة ما من النساء في شتى أنحاء إيران لا يلتزمن بارتداء الحجاب، يعكس تراجع قبضة النظام أو تخليه عن قناعاته الأيديولوجية بشأن قضية الحجاب أو غيره.
لاشك أن الاحتجاجات الشعبية واسعة النطاق التي شهدتها إيران عقب مقتل مهسا أميني قد وضعت النظام الإيراني في موقف حرج دولياً، وأضعفت قدرته على تحدي الضغوط الغربية، بل أفرزت مدخلاً جديداً للضغط على النظام، ولكن هذا كله لم يدفع النظام لتغيير السياسات بل اقتصر الأمر على نوع من المهادنة تفادياً لاثارة احتجاجات جديدة، ولكن القوانين لا تزال قائمة، حيث تؤكد الشرطة الإيرانية إنها صادرت أكثر من 400 سيارة في محافظة واحدة هي أذربيجان الشرقية بسبب مخالفات تتعلق بعدم ارتداء الحجاب، كما يدرس مجلس الشورى الايراني مشروع قانون يخص "الحجاب والعفة"، يفرض غرامات مالية كبيرة على النساء غير المحجبات، فضلاً عن عقوبات تصل إلى السجن نحو عشر سنوات خصوصاً على من يخالفن قوانين ارتداء الحجاب بشكل مستمر أو يحرضن آخريات على فعل ذلك.
معارضة ارتداء الحجاب لها رمزية تتعلق برفض القوانين التي وضعها النظام الإيراني منذ أكثر من أربعة عقود، ولكن الحاصل أن كل هذه الضغوط الشعبية لم تنتج تغيراً موازياً في قناعات النظام، لأنها بالأساس قناعات أيديولوجية، تمثل فلسفة النظام وجوهر فكره، وهي أمور لا يمكن أن تتغير بمرور الوقت لاسيما مع نفس الجيل الحاكم، وإن كان من الوارد أن تشهد إعادة نظر بتغير أو تطور الأجيال الحاكمة وهي مسألة لم يقم عليها أي دليل في الحالة الإيرانية، التي لا تزال يتنافس شخوصها على تبني "المزاج الثوري" والترويج له، واعتبار أي معارض أو منتقد له معاد لمصلحة النظام بما يقود إلى تحييده او اقصائه وتهميشه، في أفضل الأحوال، عن مركز السلطة، بينما يتم التعامل بطرق أخرى أكثر عدائية مع من يعتبرهم قادة النظام أكثر معارضة للقيم الثورية، مثلما حدث مع الكثير من القيادات والكوادر التي توصف بالإصلاحية.
المشهد الاحتجاجي في إيران بشكل عام ليس طارئاً ولا عابراً في علاقة النظام بالشعب، وهي علاقة تتسم بالاحتقان والتأزم في معظم فتراتها، وهذا مايفسر تكرار الاحتجاجات الشعبية التي يحيلها النظام عادة إلى "مخطط خارجي"، وجهات إقليمية وأطراف ممولة وغير ذلك، وهذه العلاقة تعكسها مؤشرات هجرة الايرانيين التي ترتفع من عاماً لآخر حيث كانت 1.45% منذ ثلاثة عقود، أي في ذورة الصخب الثوري والتشدد في تطبيق الأحكام والعقوبات، وارتفعت إلى 2.229% في عام 2019، حتى أصبحت إيران واحدة من الدول الطاردة لسكانها، ولاسيما النخب في مختلف المجالات.
غالبية الشعب الإيراني في حالة احتجاجية مستمرة معلنة أو مستترة ضد سياسات النظام، وهناك أجيال جديدة غاضبة تبدو أشد حدة وعنفاً في مواجهة قبضة السلطة، وتستطيع التحايل على إجراءات القمع والعزلة الافتراضية، ولكن النظام يدرك جيداً أنه من دون دعم خارجي لا تستطيع أي احتجاجات داخلية الإطاحة به، ولهذا يبدو الرهان على حدوث تغير في القناعات والأفكار مسألة مشكوك في صحتها.
بلاشك أيضاً أن التغيير ليس مستبعداً بشكل مطلق في الفكر الإيراني، ولكنه يواجه عقبات صعبة للغاية، وهنا نتذكر التغيير الملموس في السياسات الإيرانية حيال دول الجوار، وهو تغيير سياسي براجماتي لعبت فيه السيناريوهات التي روجت لتحالفات إقليمية تستهدف إيران دوراً ما، ولكنه يبقى تغييراً لا يمكن انكاره حتى لو كان مدفوعاً ببراجماتية التماهي مع مصالح النظام ورغبته في حصد العوائد الاستراتيجية المتوقعة للتعاون مع جواره الاقليمي.
والمؤكد أن مقتضيات الأمن الاقليمي تتطلب وجود علاقات طبيعية بين إيران وجوارها الاقليمي، ولا اعتقد أن هناك طرف ما يعادي تقدم إيران وتطورها، بل العكس صحيح تماماً، فإيران مستقرة متقدمة اقتصادياً وتنموياً هي إضافة نوعية مفيدة إقليمياً، وذخيرة وعنصر استقرار جوهري لمنطقة الشرق الأوسط، شريطة وجود علاقات طبيعية أو حتى غير عدائية بينها وبين الجميع من دون استثناء.