هناك اهتمام إعلامي ورسمي إقليمي ودولي واسع النطاق بكل صغيرة أو كبيرة، تتعلق باحتمالية التوصل إلى إتفاق سلام سعودي ـ إسرائيلي، ولم يعد يخفى على أحد وجود حوار ومشاورات دبلوماسية ثنائية متواصلة بين الرياض وواشنطن تتركز حول هذا الموضوع. وبموازاة ماسبق، هناك أيضاً تقدم في مستوى التقارب الحاصل بين الرياض وطهران، بحيث يبدو أن هذه المرة تختلف عن سابقاتها، وأن هناك توجهاً مشتركاً لمأسسة التعاون الثنائي بما يضمن استمراريته وديمومته بعيداً عن أي خلاف سياسي طارىء، حتى أن المواقف والتصريحات الصادرة عن مسؤولي البلدين تركز في معظمها على ملفات التعاون المشترك في المجالات الاقتصادية والتجارية والسياحية والاستثمارية، وفي ذلك قال حسين أمير عبد اللهيان وزير
الخارجية الإيراني عقب لقاء مع الأمير فيصل بن فرحان وزير خارجية المملكة العربية السعودية إنه "في السنوات الماضية، حتى عندما كانت العلاقات بين طهران والرياض جيدة وبعيدة عن التوتر، لم نحدد أبدا برنامجا مستقرا وطويل الأمد بين البلدين من حيث التعاون الاقتصادي والتجاري. واليوم، من أولوياتنا التعاون في هذا المجال".
على الخلفية السابقة، يمكن القول بأن الظروف والمعطيات تختلف نسبياً في التقارب السعودي ـ الإيراني الحالي، حيث لم يعد تقارباً سياسياً أو بالأحرى شكلياً بل هناك تركيز على التعاون المشترك الذي يوفر أساس للاستمرارية والبقاء، وهذا يقودنا إلى القول بأن هناك رؤية مختلفة للجانبين السعودي والإيراني لما يدور في الشرق الأوسط بشكل خاص وفي العالم من حولهما بشكل عام؛ وطهران بالتأكيد تعلم مسبقاً أن هناك إتصالات دبلوماسية جارية بشأن توقيع إتفاق سلام سعودي ـ إسرائيلي، ولدى طهران على الأرجح تقدير إستراتيجي دقيق حول احتمالات التوصل إلى هذا الإتفاق، وبالتالي ليست هناك أي مفاجأة حال صدور إعلان عن التوصل إلى صيغة سلام سعودية ـ إسرائيلية، لاسيما أن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قد أشار في حديثه لـ"فوكس نيوز" مؤخراً إلى أن تطبيع العلاقات مع إسرائيل بات أقرب من أي وقت مضى، وقال: "نقترب كل يوم أكثر فأكثر من تطبيع العلاقات مع إسرائيل"، ولم يكن في هذا الحديث مفاجأة كبيرة في سياق مواقف سموه الواضحة والثابتة تجاه هذا الملف الحيوي في علاقات المملكة العربية السعودية الخارجية، حيث سبق أن نفى في حديث سابق أجراه في مارس من العام الماضي مع مجلة "اتلانتيك" الأمريكية أن إسرائيل "عدو"، واعتبرها "حليف محتمل في العديد من المصالح، التي يمكن أن نسعى لتحقيقها معاً لكن يجب أن تحل بعض القضايا قبل الوصول إلى ذلك".
أحد التفسيرات هنا أن إيران اتجهت إلى أو اعتمدت مقاربة استراتيجية قائمة على الدخول كطرف منافس في علاقات التعاون والتفاعلات الجارية مع قوة اقليمية رئيسية كالمملكة العربية السعودية بدلاً من الصيغة السابقة التي كانت تنطلق من خيار أحادي قائم على رفض اقامة علاقات بين جيرانها من دول مجلس التعاون وإسرائيل من دون تقديم أي بديل، لاسيما أن الواقع الإستراتيجي الفعلي قد تجاوز هذه السياسة الإيرانية التي لم تفلح في تحقيق أهدافها في حالات سابقة مثل تطبيع العلاقات بين إسرائيل وكل من دولة الإمارات ومملكة البحرين، كما أن هذه الدول قد راكمت في السنوات الأخيرة من مصادر القوة الشاملة وروافدها ما يؤهلها لتنفيذ خطط تنموية طموحة، وإعادة بناء علاقاتها الدولية، والاستفادة من هذه الروافد في تعزيز قوتها ومكانتها ونفوذها الدولي.
وبالتالي لم يكن أمام طهران خيارات كثيرة في هذا الشأن، خصوصاً أنها تدرك تماماً أن انخراطها بقوة في تبريد أجواء التوتر عبر ضفتي الخليج العربي، يعزز موقف جوارها الاقليمي في المفاوضات المرتبطة بتوقيع إتفاق سلام مع إسرائيل، ويحول دون وضع أي شروط أو التوصل إلى أي تفاهمات قد ترى طهران أنها تضر بأمنها أو تمس بمصالحها الإستراتيجية، ضمن أي صفقة يجري الحوار بشأنها بين الرياض وواشنطن. ببساطة، اختار الجانب الإيراني البقاء قريباً من أجواء صنع القرار السعودي عبر تقارب جاء في لحظة حاسمة من تاريخ المنطقة، وحيث تتقاطر الشواهد على أن السلام السعودي ـ الإسرائيلي، بات قريباً، وهو أمر وصفته مجلة "ايكونومست" البريطانية بأنه "قد يقلب الشرق الأوسط رأساً على عقب".
ربما تأثرت استراتيجية إيران الإقليمية بالسياسة الخارجية الصينية، التي تراهن على التنمية ومد جسور التعاون في كسب نفوذ دولي، وهذا أمر قد يكون الوقت مبكراً للجزم به، وقد يكون من الوارد كذلك أن يكون التوجه الإيراني ليس سوى محاولة لاحتواء أو استباق أي توابع محتملة للواقع الجيوسياسي الجديد متمثلاً في نجاح إسرائيل في بناء علاقات تعاون رسمية مع دول مجلس التعاون، وهو واقع يؤثر حتماً في دور إيران ونفوذها الاقليمي بعيداً عن عن فكرة الصراع واثارة الأزمات التي تراهن عليها إيران منذ سنوات طويلة، لأن فكرة بناء شرق أوسط جديد تربطه المواصلات وخطوط الطاقة، حيث تسود الفرص الاقتصادية على الكراهية، بحسب وصف "الايكونومست"، هي فكرة تغذي مناخ الاستقرار الذي تنشده السعودية وخططها التنموية الطموحة، فضلاً عن أن هذه الفكرة ترتبط بشكل أو بآخر بالأسس الجديدة لبناء عالم مابعد أوكرانيا، وبالتالي فهي أيضاً ليست محصورة جغرافياً في نطاق الخليج العربي، بل تدعمها وتستفيد منها بقوة قوى دولية واقليمية كبرى مثل الولايات المتحدة والهند والصين، التي لعبت دوراً مؤثراً في التقارب السعودي ـ الإيراني، ولم يكن غائباً عنها بأي حال عوائد هذا التقارب سواء على الأمن والاستقرار في منطقة هي المزود الرئيسي لها بموارد الطاقة، أو في إطار التنافس الإستراتيجي الصيني ـ الأمريكي، بما يعنيه ذلك من محاولة لنزع ورقة حيوية من يد الولايات المتحدة.