يعد النفوذ البحري أحد نقاط إهتمام صانعي الإستراتيجيات الإيرانية منذ سنوات طويلة مضت، فالقطع البحرية الإيرانية تحاول أن تجوب العالم، حتى أنها أعلنت مؤخراً السعي للإبحار في منطقة القطب الجنوبي، وحيث سبق لها أن أعلنت التواجد بالقرب من الحدود البحرية للولايات المتحدة في المحيط الأطلسي، وذلك في إطار محاولات إستعراض القوة والرد على الوجود العسكري البحري الأمريكي في مياه الخليج العربي. وتسعى إيران دوماً إلى تعزيز قدرات أسطولها البحري والايحاء بأنه يمتلك قدرات عملياتية كبرى. كما تركز إيران في صراعها مع الولايات المتحدة على القوات البحرية، ليس فقط لأن ساحة الصراع بالأساس هي مياه الخليج العربي، ولكن أيضاً لأن القدرات الإيرانية في مجال البحر تفوق قدراتها الجوية بمراحل كثيرة، وبالتالي تراهن عليها في مواجهة ما تعتبره ضغوطاً أمريكية ترتبط بالوجود العسكري في منطقة الخليج بشكل عام.
القوات البحرية الإيرانية وبحرية "الحرس الثوري" تعملان على امتلاك فرقاطات متطورة فضلاً عن تعزيز منظومات الصواريخ المضادة للسفن، وتبالغ أحياناً في الحديث عن بعض قطعها البحرية وتصفها بأنها "مدمرات"، ولكن هذا لا ينفي أن تركيزها على تطوير ترسانتها البحرية سيؤدي بها في نهاية المطاف إلى امتلاك قوة بحرية ربما تكون قادرة على أن تهدد بشكل حقيقي أساطيل الدول الكبرى سواء في الخليج العربي أو في مناطق بحرية أخرى، منها المحيط الأطلسي الذي يظهر القادة العسكريين الإيرانيين تصميماً على إرسال قطعهم البحرية إليه بين الفينة والأخرى.
وتركز إيران في المرحلة الراهنة على تطوير منظومات صواريخ قادرة على تهديد القطع البحرية الأمريكية، وقد أعلنت مؤخراً تطوير صاروخ كروز بحري أطلقت عليه "أبومهدي المهندس" بمدى يبلغ 1000 كم، لينضم إلى ترسانة الصواريخ الإيرانية متعددة الأمدية، ووصفته وكالة "إيسنا" الحكومية الإيرانية ب"العين الحادة فوق الخليج".
بالأمس قال قائد القوات البحرية في الحرس الثوري الإيراني، العميد علي رضا تنكسيري إنه "يجب أن نسيطر على البحر إذا أردنا أن نؤثر في هندسة النظام العالمي الجديد"، ولفت العميد تنكسيري خلال كلمته في الاجتماع الخامس لمجلس رسم السياسات التابع للمؤتمر الوطني للفرص والتهديدات البحرية الجديدة، إلى أن قائد الثورة الإسلامية (خامنئي) "أمرنا بأن نخرج من الخليج نحو البحار الأخرى والمحيطات وإذا استطعنا إنجاز هذا الأمر فهذا سيفيد الأجيال التي تأتي من بعدنا".
هذا التطور، والحديث عما وصفه الجنرال تنكسيري بالسيادة البحرية، يأتي بعد فترة وجيزة من إعلان الحرس الثوري الإيراني في مطلع أغسطس أن بحريته تفرض سيطرتها على مياه الخليج، حيث أكد الجنرال تنكسيري في هذا الإعلان أن حاملات الطائرات والمروحيات الأمريكية باتت تلتزم بالقوانين الإيرانية عند مرورها من مضيق هرمز، مشيرا إلى أن بحرية الحرس قامت بزيادة سرعة الزوارق السريعة من تسعين إلى مئة وعشر عقد.
الطموح الإيراني المعلن بشأن المشاركة الفاعلة في "هندسة النظام العالمي الجديد" هو طموح استراتيجي مشروع لكل دول العالم، طالما امتلكت القوة والموارد اللازمة للتأثير في توازنات القوى الجيوسياسية، وحجز مقعد بين المتصارعين على رسم ملامح نظام مابعد أوكرانيا، ولكن التساؤل الذي يطرح نفسه هنا: ماهو التغير الذي طرأ على الفكر الإستراتيجي الإيراني في هذا الشأن؟ وماهي فرص إيران في تحقيق هذا الهدف؟ وكيف يمكن أن يؤثر ذلك، إن تحقق، في توازنات القوى الاقليمية، ناهيك عن الأمن والاستقرار في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط.
بلاشك أن الرد بدقة على هذه التساؤلات يحتاج إلى دراسات معمقة، ولكن يمكن التطرق سريعاً إلى بعض النقاط ذات الصلة بهذا التطور أهمها أن إيران باتت ترى في احتدام الصراع العالمي الدائر بين روسيا والصين من جهة والغرب بقيادة الولايات المتحدة من جهة ثانية فرصة مثالية سانحة لها لتعزيز ثقلها ومكانتها الدولية، ولهذا فقد طورّت شراكتها الاستراتيجية مع كل من بكين وموسكو، وغامرت بتعميق العداء من الغرب بتزويد روسيا بأسلحة مسيّرة في أوكرانيا سعياً لاثبات قدرتها على لعب دور فاعل في الصراعات الكبرى، كما يضاعف حماسها الانضمام إلى تكتل "بريكس"، الذي يرى وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان أنه يوفر "الأرضية لتحقيق أهداف كبيرة وتطوير الاستراتيجيات الكلية الأخرى للحكومة في تنفيذ الدبلوماسية الديناميكية".
يلاحظ في هذا التصريح أن عبد اللهيان لم يذهب إلى حد إشهار العداء للغرب، وقال إن "ربط المصالح الوطنية للدول بمصير الآخرين وببنية دولية محددة هو خطأ استراتيجي"، وأضاف أن "تعدد التعاون مع مختلف الآليات الدولية يمكن أن يكون خياراً مناسباً يضمن أقصى قدر من المصالح للدول. ولهذا السبب، فإن بعض أعضاء مجموعة بريكس، يواصلون لعب دور نشط في هذه البنية، على الرغم من علاقاتهم الجيدة مع الغرب"، وهذا يفسر بوضوح مضي طهران في الحوار غير المباشر عبر وسطاء مع واشنطن، وربما تجد في الانخراط في هذه التكتلات ولعب ورقة التعاون مع روسيا والصين لانتزاع تنازلات كبيرة في أي مفاوضات مع الغرب، ولاسيما فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني.
الواضح أن إيران ترى في البيئة الدولية المأزومة فرصة سانحة لتعزيز نفوذها الاقليمي والدولي، وكلها ثقة بأن إدارة الرئيس بايدن لا ترغب قطعياً في خوض أي صراع عسكري معها، ولهذا فقد أعلن قائد البحرية الإيرانية مؤخراً أن "أي سفينة تريد المرور عبر مضيق هرمز، يجب أن تبلغنا بجنسيتها ونوع حمولتها ووجهتها بالفارسية، وإذا لم تفعل ذلك فسوف نلاحقها"، بينما قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، إن "إيران هي الدولة الأكثر فاعلية في توفير أمن الملاحة البحرية في الخليج والمياه الإقليمية والدولية، وقد ضمنت دائماً المرور الآمن للسفن عبر مضيق هرمز".
هذه التصريحات التي صدرت على خلفية اتهامات أمريكي للحرس الثوري الإيراني بتهديد الملاحة البحرية واحتجاز السفن التجارية، تشير إلى أن الممارسة الإيرانية على أرض الواقع تتجاوز فكرة التعاون الإقليمي عبر ضفتي الخليج العربي لضمان أمن الملاحة البحرية، وترسخ فكرة الإنفراد الإيراني بالهيمنة على المياه الإقليمية.
كل ماسبق يعكس قناعة ذاتية إيرانية بامتلاك ما يوصف في أحيان كثيرة في الخطاب السياسي الإيراني بـ"القوة التي لا مثيل لها"، والواقع يقول أن القوة البحرية الإيرانية التي تصنف في المرتبة ألـ17 عالمياً، لا تستطيع تحقيق فكرة السيادة البحرية في المحيطات المفتوحة و أعالي البحار كما يتصورها القادة الإيرانيين، ولكنها قادرة على تنفيذ مهام يمكن وصفها بمهام اعاقة لأساطيل الدول الكبرى في المياه الإقليمية حيث يمكن للقطع البحرية المسّيرة آلياً، والزوارق والفرقاطات وغيرها من السفن الصغيرة تهديد الملاحة في الممرات البحرية الحيوية بالمنطقة، وهو أمر يتماهى مع عقيدة إيران العسكرية التي تتمحور حول الحرب بالوكالة.
والأرجح أن "أوامر" المرشد الأعلى خامنئي التي أشار إليها الجنرال تنكسيري بالخروج من المياه الاقليمية والتواجد في أعالي البحار، قائمة على امتلاك القدرات اللازمة لخوض الحروب غير المتكافئة في أعالي البحار أيضاً، وهو ما يمكن أن يكون عنصر ضغط استراتيجي كبير على التحركات البحرية الأمريكية في ظل تنامي التهديدات الإيرانية المحتملة.