يعتقد ملالي النظام الإيراني أن التصعيد في ملف البرنامج الصاروخي يمثل مقدمة أو تهيئة حتمية للتفاوض وانتزاع التنازلات من إدارة الرئيس ترامب، ويرون أن هذا «السيناريو» قد نجح من قبل في إجبار إدارة الرئيس السابق باراك أوباما على توقيع الاتفاق النووي مع إيران.
صحيح أن العناد والتصعيد في البرنامج النووي الإيراني قد لعب دوراً رئيسياً في الضغط على إدارة الرئيس السابق أوباما ودفعه إلى تبني سيناريو «الاحتواء» عبر مسيرة مفاوضات شاقة استغرقت سنوات عدة مع ملالي إيران، ولكن السبب المباشر في ذلك لا يعود إلى التصعيد الإيراني، بل إلى استراتيجية أوباما نفسه، حيث كان يميل إلى عدم خوض أي صراع عسكري جديد في الشرق الأوسط، ويفضل تقليص التدخلات العسكرية الأمريكية ويغامر بهيبة الولايات المتحدة وقيادتها للنظام العالمي القائم، مقابل إثبات نظريته في إدارة السياسة الخارجية الأمريكية، وهذا الأمر بات غير وارد الآن.
إدارة الرئيس الحالي دونالد ترامب تؤمن بضرورة تأكيد هيبة الولايات المتحدة وتعمل على استعادة تفوقها وسيطرتها على العالم، وتتبنى رؤية متشددة للغاية تجاه الخطر الإيراني، ولا تميل إلى الاحتواء في هذا الملف تحديداً، بل ترى أن الاتفاق النووي الموقع مع إيران في غاية السوء وتعتبره من أسوأ الاتفاقات التي وقعتها الولايات المتحدة، ولولا حرص واشنطن على علاقاتها مع شركائها الدوليين الموقعين على هذا الملف ما ترددت في إلغائه منذ بداية عهد الرئيس ترامب.
تقول حسابات المنطق «المقدمات تؤدي إلى النتائج ذاتها في حال ثبات المعطيات والمتغيرات»، ولكن يغيب عن ملالي إيران في ملف البرنامج الصاروخي أن المتغيرات المؤثرة والبيئة الاستراتيجية المحيطة بالملف إقليمياً ودولياً، مختلفة تمام الاختلاف، والظروف لا تسمح بتكرار مسار التفاوض بشأن البرنامج النووي.
ألم يقرأ الملالي «البيان المشترك» الذي حمل تنديد ألمانيا وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، وهي أبرز الأطراف الدولية الموقعة على الاتفاق النووي، بتصرف إيران «الاستفزازي والمزعزع للاستقرار»، وأن التجربة الصاروخية الإيرانية الأخيرة تمثل انتهاكاً للقرار 2231 الصادر عن مجلس الأمن الدولي؟
الرسالة واضحة من القوى الدولية للملالي، وهناك توحد واضح ومؤكد في مواجهة خطر البرنامج الصاروخي الإيراني، إذ لا يعقل أن يصمت المجتمع الدولي عن مواجهة التحدي الإيراني الصاعد في ظل اختيار الملالي لتوقيت متزامن مع التحدي الصاروخي الكوري الشمالي، ناهيك عن فشلهم في فهم ديناميات العلاقات الأطلسية - الأطلسية، ورهانهم على التباينات بين ألمانيا وإدارة الرئيس ترامب وغير ذلك من خلافات لا تعرقل الرؤى الاستراتيجية الأطلسية المشتركة لمصادر الخطر والتهديد العالمي.
فكرة مواصلة البرنامج الصاروخي الإيراني «بطاقته الكاملة» كما أعلنت الخارجية الإيرانية حسمت التردد في بعض العواصم الغربية الكبرى، التي باتت على يقين بأن الخطر الإيراني يطالها أكثر مما يطال الولايات المتحدة، وفي الوقت ذاته هي تدرك أن الأمن الأوروبي بحاجة ماسة إلى الحماية الاستراتيجية الأمريكية، ومن ثم فلزاماً عليها تحقيق أكبر قدر من التوافق والتنسيق مع الموقف الأمريكي لضمان الأمن الأوروبي.
قد تكون حسابات المصالح الاقتصادية محفز ومؤثر أسهم في إحداث نوع من التباين بين الولايات المتحدة وشركائها الأطلسيين في ما يتعلق بالملف الإيراني في سنوات سابقة، ولكن موضوع البرنامج الصاروخي مسألة تثير حساسية خاصة لدى أوروبا، التي تعاني بالفعل مصادر تهديد صاروخية متعددة، سواء من جانب روسيا أو كوريا الشمالية والآن تنضم إيران إلى هذه القائمة المهددة للأمن القومي الأوروبي.
في ضوء ما سبق، يبدو غباء حسابات الملالي، سواء من حيث التوقيت، أو من حيث المجازفة بفقدان بعض ما وفره لهم الاتفاق النووي مع مكاسب استراتيجية، وباتوا يلعبون وفق قاعدة مدمرة ومعاكسة للدبلوماسية وتقضي بربح «كل شيء أو لاشيء»!
قيل عقب إعادة انتخاب الرئيس الإيراني حسن روحاني أن فترته الرئاسية الثانية ستكشف قوته السياسية وسيكون بإمكانه التصدي لنفوذ الحرس الثوري، حيث اعتبر بعض المراقبين أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة كانت بمنزلة هزيمة سياسية لتيار التشدد في إيران، ولكن الأيام أثبتت صحة النظرية التقليدية القائلة بمحدودية نفوذ منصب الرئيس في إيران بغض النظر عن مستويات الشعبية والدعم الانتخابي، وأن القوة والنفوذ الحقيقي بيد المرشد، الذي يوجه دفة السياسة الخارجية الإيرانية حيث أراد.
وفي ملف البرنامج الصاروخي الإيراني تحديداً اصطف الرئيس والخارجية إلى جانب الحرس الثوري، ما يؤكد أن التشدد والميل للمغامرة واللعب في مناطق الخطر هو سمة مؤكدة لنظام الملالي بغض النظر عن لعبة الانتخابات والصراع الشكلي بين التيارات السياسية، وغير ذلك من ألاعيب ظاهرية يصدرها نظام الملالي للعالم.
المجمل أن حسابات الملالي في ملف البرنامج الصاروخي خاطئة تماماً، وقد لعبوا الورقة الخطأ في التوقيت الخطأ، والمضي في هذا الاتجاه ستكون عواقبه وخيمة عليهم، وعلى دول مجلس التعاون أن تدعم الموقف الأمريكي للجم الخطر الإيراني المتزايد، وعدم الاكتفاء بالوقوف موقف المتفرج، لاسيما في ظل العداء الإيراني المعلن لدول المجلس وشعوبه.