اعتدنا، كباحثين، أن نكرر مقولة تقليدية مفادها أن الأوروبيين أكثر دراية وفهماً لمنطقة الشرق الأوسط وما يحدث فيها مقارنة بالولايات المتحدة، بحكم الخبرة الاستعمارية السابقة، واستناداً إلى تجارب القوى الأوروبية مع شعوب هذه المنطقة وما يحكمها من روابط وعلاقات اثنية وطائفية وتاريخية معقدة.
وهذه القناعة تثبت صحتها حيناً ولكنها تخفق في أحيان أخرى في فهم أبعاد ودوافع الموقف، أو المواقف، الأوروبية حيال قضية منطقتنا، ويقدم لنا الملف الإيراني نموذجاً جيداً لحدود الفهم الأوروبي للتوترات والفوضى والاضطرابات السائدة في منطقة الشرق الأوسط.
فلاشك أن الانتهاكات الصاروخية الإيرانية تزعج الدول الأوربية وتثير قلقها، ولكن دول أوروبا تتحفظ على موقف إدارة الرئيس ترامب بشأن الاتفاق النووي الموقع بين مجموعة "5+1" وإيران، وتشعر بالقلق جراء امتناع الرئيس الأمريكي عن المصادقة على التزام إيران ببنود هذا الاتفاق الموقع عام 2015.
إيران من جانبها تقدم "الجزرة" للجانب الأوروبي متمثلة في مزيد من الاغراءات والصفقات الاقتصادية والتجارية، وتريد المقابل متمثلاً في وقوف الاتحاد الأوروبي أمام ما وصفه الرئيس حسن روحاني ب "الممارسات الخاطئة التي تخل بالسلام والتعاون الدولي".
أحد نقاط القلق الأوروبي تتمثل في هدر سنوات من التفاوض وإعادة فرض عقوبات على إيران بما يهدر فرص التواصل والحوار معها للتخلي عن طموحاتها التسليحية، وهذا أمر مفهوم على الصعيد النظري فقط، لأن الواقع العملي ينسف هذه الفرضية الدبلوماسية ويقوض أسسها تماماً.
الحفاظ على الأبواب مشرعة، والإبقاء على قنوات التواصل قاعدة حيوية وجوهرية في العمل الدبلوماسي على الصعيد الدولي، ولكن في حال وجود رغبة متبادلة من الطرفين للبحث عن حلول وبدائل ومخارج للأزمات، وبخلاف ذلك يتحول هذا الأمر إلى مدخل رئيسي للابتزاز وانتزاع التنازلات وفرصة لكسب الوقت وتحقيق أهداف الطرف، الذي يتخذ من هذه الاستراتيجية مطية لذلك بحكم انتفاء جديته وعدم امتلاكه أية نوايا لتحقيق الأمن والاستقرار.
يقول أحد المسؤولين الأوروبيين في تعليقه على النهج الأمريكي إن "كثيرين في العالم سيفكرون ما إذا كان يجب أن يمتلكوا أنفسهم أسلحة نووية، باعتبار أن مثل هذه الاتفاقات تلغى، ما سيجعل أطفالنا وأحفادنا يترعرعون في عالم شديد الخطورة"، وأن "إلغاء الولايات المتحدة الاتفاق أو فرضها عقوبات جديدة على إيران سيمنح المحافظين في طهران الذين يعارضون التفاوض مع الغرب، اليد العليا. ثم قد يتحول هؤلاء إلى تطوير أسلحة نووية، وهو ما لن تقبله إسرائيل، ويعرّض أمن حلفاء الولايات المتحدة وشعوبهم لخطر لأسباب سياسية محلية" وهذه فرضيات لا أساس لها من الصحة في المجمل لأسباب واعتبارات عدة أولها أن الغاء الاتفاق النووي ـ إن تم ـ سيكون بسبب انتهاك إيران لروح هذا الاتفاق، فالاتفاقات الخاصة بالتسلح بشكل عام قائمة على نوايا جادة لتحقيق الأمن والاستقرار ونزع فتيل التوترات، ولكن أن تلتزم دولة موقعة على اتفاق ما بحدود نص الاتفاق وتقوم بالبحث عن ثغرات فيه للمضي في نفس الهدف الذي استهدف الاتفاق السيطرة عليه، فهذا أمر معيب ولا يليق بدولة عضو مسؤول في المجموعة الدولية وتلتزم بمقررات الشرعية التي أقرتها جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. والنقطة الثانية أن القناعة الأوروبية في ما سبق قائمة على تصديق الخرافة التاريخية التي نجح ملالي إيران في إقناع الكثيرين بها، وهي وجود معتدلين ومتشددين في نظام ولي الفقيه! حيث يخشى الجانب الأوروبي من أن يؤدي الغاء الاتفاق إلى امتطاء المتشددين سدة الحكم في إيران وبالتالي ضياع فرص التفاوض مع الغرب! وهذه مسألة كاشفة لقصور في فهم استراتيجيات إيران السياسية.
المؤكد أن من يؤمن بهذه الفرضية لم يتابع تصريحات الرئيس "المعتدل" حسن روحاني التي قال فيها إن بلاده متمسكة بإنتاج "جميع الأسلحة الدفاعية"، ونكرر "جميع الأسلحة" التي يزعم أنها دفاعية، ماسكاً بزمام التشدد ومعبراً عن موقف غلاة المتطرفين في الحرس الثوري الإيراني!
هل يعتقد أحدنا أن روحاني أو الجنرال سليماني يتحدث بلسان نفسه حين يعبر عن مواقفه حيال القضايا الإقليمية والدولية؟ كلا، فالكل بتحدث بلسان الرجل القابع على رأس النظام، والذي يحرك الجميع كعرائس المسرح ويوزع الأدوار بين التشدد وما يعتقد أنه "مرونة" او "اعتدال" بحسب التوقيتات والظروف والقضايا والبيئة الاستراتيجية التي يتعامل معها، ومن ثم فلا مواقف شخصية ولا تيارات متشاحنة ولا حتى متفاوتة في مواقفها ورؤاها للقضايا والأزمات.
قد يقول قائل: هل يخفى على الأوروبيين مثل هذه التصورات؟ أقول لا تخفي ولكن الجانب الأوروبي يراهن على خيارات ثبت فشلها، فسياسة الاحتواء والرهان على عامل الوقت في حل الأزمات يمثل استراتيجية أوروبية أساسية، وقد جربتها الولايات المتحدة من قبل ولم تحقق نتائج تذكر، وهذا الأمر كارثي بالنسبة لملف إيران في الوقت الراهن في ظل استعجالها توسيع النفوذ والتمدد في منطقة الشرق الأوسط بعد ان لاحت لها فرصة تاريخية للوصول إلى مياه المتوسط عبر نفوذ مباشر من خلال الأراضي العراقية والسورية واللبنانية، وإن حدث هذا فسينطوي على تحولات هائلة في معادلات الأمن الإقليمي، بل والمصالح الاقتصادية والاستراتيجية لدول المنطقة جميعها.
اتهامات أوروبية كثيرة لإدارة الرئيس ترامب بإساءة افهم وعدم معرفة بيئة الصراع في الشرق الأوسط، وأن مواقفه تخالف النظرة التي امتلكتها إدارتي الرئيسين السابقين كلينتون وأوباما، ولكن الواقع ينفي مثل هذه الاتهامات فكل التكتيكات التي تم تجريبها سابقاً مع إيران ثبت فشلها، بل يمضي الملالي على درب استنساخ سيناريو كوريا الشمالية من دون أي اختلاف!
ما أريد قوله إن إيران، عبر تجارب عدة، لا تفهم لغة الآخر سوى عندما تدرك أن توازنات القوى ليست في صالحها وأن نظامها مهدد بالزوال، يجب ان نثق أن مصلحة النظام في صدارة الالويات، وعندها فقط ظهر الملالي الوجه "الطيب" ويخفون الوجه "القبيح"، وقد فعلوا ذلك إبان حرب العراق 2003، وقبلها في عام 2001، وأبدوا كل تعاون ممكن مع الولايات المتحدة في قصف حركة طالبان خشية أن تطالهم اليد الأمريكية الغاضبة وقتذاك.
من الضروري في إدارة الأزمات أن تقرأ جيداً الإطار السيكولوجي الحاكم لمن يقف في الطرف الآخر من الأزمة!!