بعد انكسار موجة التظاهرات والاحتجاجات التي عمت مدن إيران وشوارعها منذ نهاية العام 2017 وبدايات العام الجاري، يتساءل الكثير من المحللين عن أسباب هذا الانكسار، ويطرحون تفسيرات عدة لأسباب الإخفاق، بعضها منطقي ومفهوم مثل قوة القبضة الأمنية للنظام الإيراني وسياسة اليد الحديدية التي يبطش بها الحرس الثوري ويلاحق معارضي النظام، ومنها ماهو جدلي ويصب في خانة الجدل السياسي لا أكثر ولا أقل.
يقول بعض المحللين أن تخلي الغرب عن المحتجين في شوارع إيران يعد أحد أسباب انكسار التظاهرات وفشلها، وهذا التفسير يستدعي بامتياز سيناريو الاضطرابات التي سادت في دول عربية عدة إبان عام 2011، حيث تسببت الضغوط الغربية، والأمريكية منها تحديداً في إسقاط بعض الأنظمة العربية، وتخلي قادة عرب عن الحكم.
هذه الرؤية التحليلية "الإسقاطية" قائمة على أن صدور دعوة أمريكية صريحة للنظام الإيراني بالتخلي عن الحكم "فورا" كان كفيلاً بضمان نجاح التظاهرات! هذا الأمر ليس صحيحاً بأي حال من الأحوال، فلا أحد يشكك في رغبة واشنطن تحديداً، وفي قمتها الرئيس ترامب، حيث لا أحد أكثر لهفة منه في رؤية رموز النظام الإيراني، وقد اطيحوا، يبحثون عن مأوى لهم ولأسرهم!
الحقيقة أن الولايات المتحدة قدمت دعماً مباشراً للتظاهرات الإيرانية، منذ بدايات هذه التظاهرات، في حين بدا الموقف الأوروبي حذر يترقب ويتابع ولم ينتقل إلى مربع تأييد المظاهرات ودعمها، ولكن الموقف الأمريكي والغربي بشكل عام، لا يمكن أن يقارن بحالة الأنظمة العربية في عام 2011، فالنظام الإيراني ليس حليفاً لواشنطن، ولا يعتمد في بقائه على دعم أمريكي، بل هو نظام "مارق" من وجهة نظر فريق كبير من صانعي القرار الأمريكيين، ولذا فقد ذهب هذا النظام إلى اتهام الولايات المتحدة منذ الأيام الأولى للتظاهرات بتنظيمها ودعمها بغية إسقاط النظام.
النظام الإيراني درس واستوعب دروس اضطرابات الدول العربية جيداً وحصن نفسه واتخذ من التدابير ما يحول دون تكرار سيناريو إطاحة النظام بالأساليب ذاتها، والأهم من ذلك أن إيران دولة منغلقة أشبه بكوريا الشمالية، ويصعب على الاستخبارات الأجنبية العمل فيها كما حدث في دول عربية عدة كانت لأشهر وربما سنوات ساحة للمؤامرات والخطط الممولة من الخارج، سواء قبل إطاحة أنظمة هذه الدول أو بعدها، حيث تدخلت دول مثل قطر لتمويل تنظيمات إرهابية استطاعت اختطاف صدارة المشهد السياسي في مصر ووصلت إلى منصب الرئاسة! هذه الأمور غائبة في إيران التي يقبض نظامها على الأوضاع بقبضة حديدية، ويصعب على دول خارجية العمل بسهولة وحرية كما كان حادثاً في حالات عربية!
الاحتجاجات الإيرانية كانت شعبية صرفة، ولكن غابت عنها القيادة، والنظام نفسه يمتلك موروث عميق من الخبرة التآمرية على معارضيه، ويستطيع اسكاتهم بعدما تمكن من إحكام قبضته الحديدية على مفاصل الدولة من عام 1979.
ثمة أمر آخر غاية في الأهمية يتعلق بعقيدة قوى الأمن في الحالتين، العربية والإيرانية، ففي بعض الدول العربية انهارت قوى الأمن تحت ضغط الاحتجاجات المتزايد والارتباك الذي أصاب هرم السلطة والقيادة في تلك الدول، وهي قوات نظامية رسمية وتمتلك عقيدة امنية احترافية غير مؤدلجة، والأدلجة هنا هي أحد أهم الفوارق بينها وبين ميلشيات الباسيج وقوى الأمن الإيرانية غير النظامية، التي تعمل وفق عقيدة أيديولوجية لا تسمح بانهيارها بل بسفك الدماء والقتال دفاعاً عن العقيدة والمذهب!
في خطابه الأول عن "حالة الاتحاد"، وصف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرشد الثورة الإيرانية بأنه "ديكتاتور"، معلناً وقوفه مع الشعب الإيراني للحصول على حريته، وقال "عندما انتفض الشعب الإيراني ضد جرائم ديكتاتوريته الفاسدة، لم التزم الصمت" وهذا صحيح تماماً، فقد قدم ترامب دعم صريح ومباشر وقوي للمتظاهرين الإيرانيين، الذين وصفهم في خطابه بالشجاعة، ولكن الكلمات الصادرة عن البيت الأبيض لا تكفي لحسم الأمر في الحالة الإيرانية المعقدة كما أسلفت.
في ضوء تحليل الشواهد المحيطة ببيئة الاحتجاجات التي شهدتها إيران مؤخراً، يمكن القول بأن ثمة أسباب عدة وراء انحسار هذه الموجة الاحتجاجية، ليس من بينها باعتقادي تخلي الغرب عن المتظاهرين الإيرانيين، ولكن، وكما ذكرت في مقال سابق لي، لن يكون سقوط النظام الإيراني بنفس سيناريو سقوط أنظمة عربية في السنوات الأخيرة، فالوضع في إيران مختلف تماماً، والموجة الاحتجاجية الأخيرة لم تفشل كما يعتقد البعض، بل حققت الكثير من الأهداف، وربما تكون تمهيداً لموجات أقوى تنجح في اقتلاع النظام من جذوره، ولكن عبر صدام دموي عنيف، فهذا النظام لن يتخلى عن الحكم عبر بيان هادئ كما يعتقد المحللين، فالتاريخ هناك لن يكرر نفسه، والملالي الدمويين بطبيعتهم لن يخرجوا صباح يوم احتجاجي ليعلنوا رغبتهم في حقن الدماء، فالحالة الإيرانية استثنائية ، أو هكذا يشير علينا تاريخ الماضي الإيراني القريب في نصف القرن الأخيرة على وجه التحديد!!!